في خطابه لإطلاق البرنامج المتكامل الهادف إلى إنعاش الاقتصاد، أكد رئيس الجمهورية على ضرورة إرساء القواعد المؤسسية لحكامة رشيدة والتقيد بمبادئ الشفافية والمحاسبة والمساءلة. كما أهاب بجميع المواطنين وكافة القوى الحية للقيام بالدور الرقابي المنوط بهم بوصفهم الغاية من هذا البرنامج.
من هذا المنطلق، ودعما منا لذات المقاربة الحكيمة، نود أن نقدم مساهمة الخبير الممارس لمهنة التدقيق، الفقير الى ربه، وقديما قيل: "كل إناء بالذي فيه ينضح".
يصعب تلافي وقع الفساد بعد أن يكون قد حصل إذ يقتصر الأمر في الغالب على إيداع المنحرف السجن لمدة قد لا تطول، وفي أحسن الأحوال، استرجاع النزر القليل مما أفسد. لذلك سوف نركز فيما يلي على سبل الوقاية من الفساد لكونها خيرا من العلاج.
دعونا نستحضر الماضي لنستخلص منه العبر.
لقد حظي موضوع الحكامة الرشيدة في بلادنا باهتمام كبير من طرف مؤسسات التمويل الأجنبية فسنت لذلك برامج متعددة بتعددها. وكان مأخذنا عليها غياب التنسيق فيما بينها وهو ما قد يكون ساهم في تثبيط عملها في النهاية. ثم إن النصوص الرامية الى ترشيد المال العام، على كثرتها، ظلت في الغالب حبرا على ورق حيث لم يواكبها وضع الآليات المناسبة لتطبيقها.
من منا وقف قط على باب لجنة متابعة المؤسسات الاقتصادية؟ أما أن يكون قرأ عنها بصفة عرضية فلربما. ذلكم أن المادة 1271 من المدونة التجارية والمرسوم رقم 2015-064 الصادر بتاريخ 06 ابريل 2015 ينصان على إنشائها للتكفل بتجميع المعطيات عن نشاط المؤسسات الوطنية واقتراح السبل لتسوية وضعية ما قد يتعثر منها. كما يعهد، بموجب المواد اللاحقة من المدونة، إلى مفتشية الشغل والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومفوضي الحسابات بمهمة ابلاغ اللجنة المشار إليها بجميع بوادر تعثر المؤسسات التي يتعاملون معها بحكم مهامهم. وتبلغ اللجنة رئيس المحكمة التي يوجد بدائرتها المقر الرئيسي للمؤسسة المتعثرة من أجل الاستفسار عما يعتزم المسير اتخاذه من تدابير لتسوية الوضعية.
تلكم حزمة من الإجراءات لوأنها كانت اتخذت عند الاقتضاء لجنبتنا افلاس الكثير من الشركات العمومية التي يفتقدها البلد في زمن الأزمات هذا. فالتجارب علمتنا أن تعثر الشركات يخضع لتطور تدريجي يمكن من التنبؤ به مسبقا.
توجب المادة 29 من الأمر القانوني 90-09 المنظم للمؤسسات العمومية والشركات ذات رأس المال العمومي والمحدد لعلاقتها بالدولة، تأسيس آليات للرقابة الداخلية. وأهم هذه الآليات استحداث إدارات أو مصالح للتدقيق الداخلي تتمتع بالاستقلالية، وهو ما يتم في منشآتنا على مضض منها أو رضوخا لأوامر عليا عرضية لا تلبث أن يطويها النسيان فينتهي الأمر بالإدارة الى الضمور والتلاشي من فرط التغييب.
بالمناسبة، لا أحد يفهم السر في استثناء البنك المركزي والشركة الوطنية للصناعة والمناجم من تطبيق الأمر القانوني 90-09 وقد شهدتا في تسييرهما تعسفا سلطويا وتدابير كثيرة بدون وجه حق.
من جهة أخرى، تلزم المادة 11 من المرسوم 118-90 الصادر بتاريخ 19 أغسطس 1990 مجلس الإدارة بتقديم تقرير مفصل وسري الى الوزير المكلف بالوصاية على أساس فصلي بشأن تقييم تسيير المديرين العامين ومساعديهم على أن يركز على حضور وانضباط وسلوك هؤلاء، وتحقيق الأهداف التي تم تحديدها للمؤسسة أو الشركة والنتائج المتوقعة. ويستخدم التقرير لتقييم أداء الإدارة وتحفيز نشاطها. ولا أحد يذكر أن هكذا تدابير تم قط الأخذ بها.
الكلام عن النصوص يفضي بنا حتما إلى التطرق إلى الجهات القائمة على وضعها حيز التنفيذ من مؤسسات وهيئات رقابة ومسؤولين أئتمانيين.
يلاحظ المتتبع لهيئات رقابة الدولة أن تدخلاتها كثيرا ما تتم بعد أن يكون السيف سبق العذل حيث تقتصر مهمتها على جرد للخسائر بدل أن يكون دورها وقائيا واستباقيا عن طريق تحقيقات دورية تناوبية أو فجائية. هذا ونوصي بالتعجيل باعتماد معايير المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة (INTOSAI) سبيلا إلى تعزيز الشفافية وتحسين الأداء وضمان المساءلة. وإننا لنثمن الجهود المقام بها حاليا، على بطئها، من أجل التحول بمحاسبة الدولة من محاسبة سيولة إلى محاسبة التزامات. ونؤكد على ضرورة التعجيل بهذا التحول المنظور.
أما ما يخص مفوضي الحسابات الموكل إليهم بمراجعة البيانات المالية للشركات، فسل به خبيرا! لقد شهدت السنوات الأخيرة اعتماد خبراء محاسبة لا يتمتعون بالمؤهلات العلمية لمزاولة المهنة المنصوص عليها في المرسوم 97-018 الصادر في 01 مارس 1997 حيث تم ذلك على أساس المحسوبية والزبونية. وكنا أعددنا مع مجموعة من الزملاء كتابا أبيض يستعرض المعوقات أمام مهنة خبير المحاسبة في بلادنا وسبل التغلب عليها خدمة للتقييم الصحيح لأداء المسيرين وضمانا لاستمرارية أنشطة الشركات بالإضافة إلى وعينا لحجم المسؤوليات المدنية، والجزائية والتأديبية لأصحاب المهنة. ونقترح إعادة صياغة النصوص القاعدية للمهنة مما يحفظ مستوى تكوين وكفاءة مهنية رفيعين ويحقق درجة نمو إدراك للمعضلات الأخلاقية كافية لضمان الاستقامة.
تتطلب المسؤولية الائتمانية للمسير ان يتحلى بالمؤهلات العلمية والأخلاقية التي تضمن كفاءته واستقامته. لذا وجب ان تكون غاية كل تعيين وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بعيدا عن أي اعتبارات أخرى. كما ان العمل بمبدأ المساءلة والمحاسبة وتجنب محاباة المقربين يشكلان دعامة لمنع الانحراف في التسيير وردعه. بهذا الخصوص، ثمة مواقف تسهل مباشرة التحايل والفساد والتستر على المذنبين، نذكر منها:
وضعية المسير الحاصل على وظيفة يصعب فصله منها حتى وان انحرف، كأن يتم تعيينه بضغط من عشيرته، أو جماعة ناخبين يستجدي ودهم.
عدم ربط الوضعية الإدارية للموظف بنوعية أدائه وغياب مسؤوليات تسييرية محددة المعالم.
يرتبط مبدأ المساءلة ارتباطا وثيقا بنوعية النظام المحاسبي ومصداقية البيانات المالية التي تشكل أساسا لقياس أداء المسير. لذا كان لا مناص لنا في ظل العولمة الجارفة من اعتماد المعايير المحاسبية الدولية ورديفها المتمثل في المعايير الدولية للتدقيق لما توفره من موثوقية على نطاق واسع.
يعود إلى أعضاء مجالس الإدارة الجزء الكبير من المسؤولية الإئتمانية. لذا لزم تعيينهم على أساس الكفاءة وتنظيم دورات تكوينية لصالحهم حول قانون الشركات ومدونة الصفقات العمومية والدليل المحاسبي العام للشركات، إلخ.
يتم القيام بالدور الرقابي المطلوب من المواطنين بصفة مباشرة أو عن طريق ممثليهم في البرلمان. من أجل ذلك، يجب مد الجمعية الوطنية بالتقارير العامة السنوية التي تعدها محكمة الحسابات بشأن المداخيل والمصروفات العمومية. ونشير هنا إلى أن اعداد تقارير السنوات الأخيرة شهد تأخرا ملحوظا.
أما الرقابة والمتابعة المباشرة من طرف المواطنين فتتطلب وضع آليات مناسبة لتسهيلها، نذكر منها إنشاء خطوط ساخنة داخل المؤسسات الحساسة لمركزة واستقبال المسارات بالشكاوى والإفشاءات بعمليات الفساد التي يتم التبليغ عنها بسرية تامة. كما يمكن أن تمر عملية التبليغ بثلاث مراحل تصاعدية:
داخل المؤسسة المبلغ عنها (عن طريق المشرف التراتبي، أو شخص مرجعي يعين لهذا الغرض)؛
أو لدى السلطة المعنية قضائيا أو إداريا؛
وأخيرا، وفي حال عدم نجاعة المرحلتين السابقتين في أجل معين، يمكن للمبلغ نشر القضية للعموم في وسائل الإعلام أو عن طريق منظمات المجتمع المدني.
تلكم هي مقترحاتنا لضمان إنجاح البرنامج الاقتصادي المتكامل عبر حكامة رشيدة ويمكن أن نلخصها فيما يلى:
نفض الغبار عن القوانين والمراسيم المتعلقة بترشيد المال العام ومتابعة المؤسسات العمومية ووضع الآليات المناسبة لتطبيقها؛
تنشيط وإعطاء دفع جديد لمؤسسات رقابة الدولة وتعزيز ودعم استقلاليتها من خلال تبني معايير المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة (INTOSAI)؛
التعجيل بتحويل المحاسبة العمومية الى محاسبة التزامات تراعي المعايير الدولية واعتماد المعايير الدولية للمحاسبة والتدقيق بالنسبة للشركات؛
إعادة صياغة نصوص مهنة المحاسبة والحفاظ على مستوى رفيع في تكوين وكفاءة منتسبيها؛
وضع الرجل المناسب في المكان المناسب عند تعيين المسيرين وإقرار مبدأ المساءلة والمحاسبة للجميع، وشكران وتثمين حسن أداء الموظفين عن طريق منح أجور عادلة، ومكافآت تحفيزية قد تأخذ شكل تنويهات تشريفية، أو منح أوسمة وعلاوات.
تشجيع المواطنين على التبليغ المسؤول عن عمليات الفساد وتسهيل ذلك عمليا مع ضمان حماية كافية لهم.
حفظ الله موريتانيا ووفقنا لما يحب ويرضى.