بعد ستين سنة من الاستقلال؛ وفي فاتح أغسطس من سنة 2019 كانت موريتانيا أشبه بالأنقاض؛ بنية تحتية متهالكة، وخزائن فارغة، وديون متراكمة، ومظالم منتشرة، وفقر مستشر، ونخبة سياسية متناحرة.. كان هذا هو الواقع دون مبالغة، إنها تراكمات من الفساد، ظلت وتيرتها في ازدياد، إلى أن اختتمتها العشرية الأخيرة.
كل الحكام الذين تعاقبوا على موريتانيا، ورغم المآخذ عليهم، لم يكونوا رجال أعمال، ولا متربحين، صحيح أنه من بينهم رجال سلطة؛ وظفوا المال العام لترسيخ واستمرار سلطتهم؛ لكنهم لم يتكسبوا ولم يتمولوا ولم يبنوا القصور، غير أن العشرية الأخيرة كانت استثناء في تاريخ البلد مع الفساد؛ حيث كان برعاية، بل وبممارسة من هرم السلطة.
في ظل هذا الواقع القاتم استلم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني السلطة، وما إن استلمها حتى باغتته العصابة باختلاق الأزمات داخل أغلبيته الداعمة، بغية إرباك المرحلة؛ ثم جاءت جائحة كوفيد ١٩ لتبسط بظلالها السوداء على كل العالم؛ حيث تقلص المنتوج العالمي بما يربو على ١٥٪ .
أشهر قليلة وجد الرجل نفسه يسبح في كل هذه الأزمات، ومع ذلك استطاع أن يضع القطار على السكة؛ أشهر قليلة وُضعت خلالها الاستراتيجيات العقلانية ذات الجدوائية؛ فتم التدخل (نقديا وعينيا) لصالح الفئات الهشة، كما تم تحسين الخدمات الصحية، وتمت مراقبة الأسواق وتثبيت الأسعار، وسن قوانين تعاقب على التزوير، إضافة إلى وضع أسس صلبة لخلق مدرسة جمهورية، تساهم -إضافة إلى التكوين المعرفي- في ترسيخ قيم الوطنية، وكان الفصل بين السلطات أيضا علامة بارزة في هذه الأشهر؛ حيث شاهدنا ملف "فساد العشرية" يدار بكل مهنية، وبكل استقلال للسلط وفصل بينها.
كانت أشهرا رغم قلتها، ورغم ما اكتنفها من تأزم وطني ودولي، كفيلة بإعادة الثقة بين المواطن والدولة، ويلاحظ ذلك جليا في الثقة التي يتكلم عنا بها اليوم الجيران والشركاء، ويتكلم بها الساسة عن مؤسسة الرئاسة؛ التي لم تعد مكانا لنقاش "كومسيوهات" ولا قلعة للمؤامرات ضد المعارضة، أو ضد الجيران، ولا صالونا لاغتياب المخالفين وسلقهم بألسنة لا حياء ولا أخلاق لها.
هذا الإجماع الذي نشهده اليوم من كل فئات وشرائح المجتمع (ساسة، حقوقيين، إعلاميين، مثقفين...) هو أكبر برهان على أن فلسفة الحكم، وفلسفة إدارة الشأن العام أخذت منحى مغايرا؛ أساسه الأخلاق (والأخلاق ليست منقصة) والمسؤولية؛ حيث طبق الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ما تعهد به غداة تنصيبه؛ حين قال إنه سيكون رئيسا لكل الموريتانيين، سواء أولئك الذين صوتوا له، والذين صوتوا لغيره.. إن هذه الأشهر تصدح بكل فصاحة وإبانة بأن الذين راهنوا على محمد ولد الشيخ الغزواني امتلكوا البصر والبصيرة معا.
إن هذا الجرد الاستعجالي لواقع البلد حين استلمه محمد ولد الشيخ الغزواني، وواقعه بعد عام من استلامه له، يؤكد أننا توقفنا أكثر من اللازم، وأن لحظة الإقلاع حانت، وأن لم يبق لنا إلا التأسي والتيمن بنوح عليه السلام:
(قال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها)