من آخر الرزايا الكثيرة التي آل إليها حال هذا البلد المنكوب أن الناس فقدوا الثقة في كل شيء... في أنفسهم و في مجتمعهم و في دولتهم و في قادتهم و في علمائهم... أصبح كل شيء هو و عكسه عندهم بالتقريب سواء...
محاربة الفساد تعني الفساد في أبشع صوره ...
و مكافحة الفقر هي في الواقع تكريس و توطين للفقر في كل مكان...
الشيخ "الوقور" صاحب اللحية الكثة و المسبحة الطويلة ليس في حقيقة أمره عند الناس إلا لص محترف...
و المسؤول "الكبير" صاحب البدلة الأنيقة و ربطة العنق الفاخرة ما هو في حقيقته عندهم إلا محتال نصب متخصص...
إنجازات القرن العملاقة هي في الواقع بيت عنكبوت... و إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.
ثم إن النابل قد إختلطت بالحابل في هذا البلد فلم يعد بمقدور صاحب لبّ أن يميز شيئا، و في المحصلة صار الناس من قلة ثقتهم في بعضهم يدسون أنوفهم في شيء ... لقد إختفت الفوارق بين الجاهل و العالم ... بين من يعلم و من لا يعلم... صار الجميع "في الهواء سواء"... و نسي الناس بسبب هذا الخلط أن الذين يعلمون لا يستوون مع الذين لا يعلمون..."قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ".
لو سكت من لا يعلم و تكلم من لديه علم لخفت الضوضاء و لتناقصت حدة الخلافات و لاستطاع الناس فهم شيء مما يسمعون...
***
بالنسبة للمادة 93، نحن الآن أمام وجهتي نظر شبه متناقضتين، الأولى يقول أصحابها إن الحصانة ظرفية مرتبطة بالمنصب منفصلة بإنفاصل المعني... فلا حصانه باقية للرؤساء السابقين فهم مواطنون عاديون كغيرهم بالتمام و الكمال... و عليه يمكن بل يجب أن تبدأ محاسبة أي رئيس على كل شيء فعله خلال مأموريته في اليوم الذي يغادر فيه القصر الرمادي... و أن ذلك يمكن أن يكون أمام أقرب سلطة قضائية.
وجهة النظر الأخرى تقول إن الحصانه باقية مع صاحبها أي أنه غير مسؤول عما يقترفه في فترة رئاسته حتى-و هذا مثال من عندي- لو قام بتحول خزينة الدولة الى حسابه الخاص في آخر يوم من مأموريته، فذلك عندهم تصرف لا يَسأله عنه أحد ما لم يتم تكييفه من أغلبية الرلمان على أنه خيانة عظمى، و الطريق شائك و طويل في سبيل ذلك التكييف....
***
من وجهة النظر المنهجية يحتاج نص المادة 93 الى فقيه في القانون ليشرحه لأمثالنا من غير المختصين... يشرح لنا قصدهم -مثلا- بقولهم "أثناء ممارسته سلطاته" ... و ما المقصود ب"سلطاته"؟
و عليه أن يبين لنا مدى صحة المعادلة التالية: رئيس الجمهورية=رئيس جمهورية سابق... أي هل لهما سواء نفس المستوى من الحصانة؟....
السؤال الآخر هو: هل حصانة الرئيس منسحبة على ممارسته ما لا يدخل في إطار "سلطاته"؟... أو ممارسته ما يمنع عليه قانونا عبر مواد دستورية أخرى (كالتربح و جمع المال و تجميع الهدايا و الإكراميات و السعي وراء أتكوميس و غيره مما هو معروف شائع ... )؟...
ربما يكون من المفيد أن يشرح المتخصصون لنا أيضا ما إذا كانت الحصانة مرتبطة بالشخص أم بالمنصب... هل هي مكتسبة؟... و هل ذلك الكسب ملازم لصاجبه باق معه كراتبه الذي تقاضاه خلال فترة خدمته؟.
الذي يجب أن يجيب على هذه الأسئلة هم أهل الاختصاص و ليس الهواة... و الهدف هو الاستفادة منهم و قد أمرنا أن نسألهم "و اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".
***
ربما يقودنا البحث في رحلة فهم المادة93 الى النحاة و اللغويين ... لنسألهم عن الظرف و أنواعه و دلالاته و نسألهم عن "الإضافة" أيضا ... هذا إذا كانت صياغة المادة93 في أول مرة كانت باللغة العربية كما هو مفترض... أما إذا كانت مترجمة فتلك متاهة أخرى ربما تقودنا الى باريس و حواضرها...
***
أما السؤال الأخير -و هو سؤال للجميع-: لماذا لا نرضى و نخضع لحكم "الحق"... فمن برئ بحق فله ذلك و له معه زيادة تقدير و احترام ... و من أدين فعليه أن يرضى بحكم الحق و يتوب إلى الله و يتخلص من أوزاره قبل يوم القيامة حيث لا ينفع مال و لا بنون...
على العموم عندما تكون النفوس صادقة و مخلصة في سعيها لإحقاق الحق فلا إشكال (أو هذا هو المفترض)، أما إن خالطها شيء آخر فالله المستعان...
***
نحن شعب ثقافته القانونية ضحلة ... فقد تعودنا بدلا من القانون و الدستور على التوجيهات السامية و الأوامر العليا... رئيسنا قبل الحالي كان الى وقت قريب يتفاخر على رؤوسنا و نحن شهود بأنه يستطيع إلغاء الدستور و أنه قد فعل ذلك أكثر من مرة، و أخيرا أخبرنا على سبيل الزهو أنه لا يخطط للإنقلابات بل ينفذها ... قال ذلك و نحن-أقصد بعضنا- نصفق له...
بالإضافة الى حالنا المذكور مع الدستور و مواده، نحن شعب لا يجد في ثقافته ما يمكن أن يؤصل لقصة الحصانة التي تتحدث عنها المادة93... فثقافتنا تقول "إن القوي ضعيف حتى يؤخذ منه الحق لمستحقه... و الضعيف قوي حتى يؤخذ له حقه"... لا فرق بين حاكم و محكوم و لا بين غني و فقير و لا بين قوي و ضعيف و لا بين سيد و مسود...
***
عن عبد الله بن جبير الخزاعي رضي الله عنه قال:"طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في بطنه إما بقضيب وإما بسواك، فقال: أوجعتني فأقدني، فأعطاه العود الذي كان معه، فقال: (استقد) أي: اقتص مني، فقبَّل بطنه، ثم قال: بل أعفو، لعلك أن تشفع لي بها يوم القيامة/ رواه الطبراني.
لم يتردَّد النبي صلى الله عليه وسلم -و هو أعظم الناس و أشرفهم طرّا- في إعطاء سواد رضي الله عنه حقه في القصاص حين طالب به، مع أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يقصِد إيذاءه وإيجاعه، ليَضرب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً لعدل الحاكم القائد.
***
لقد تاهت الدولة و الشعب معها بين دستور مترجم لا يطبق و لا يحترم و لا يفهم ... و عقيدة متجذرة في الثقافة و الوعي الجمعي للمجتمع، لكنها لا تجد لها إنعكاسا في القوانين و المساطر التي تنظم و تضبط الحياة العامة... و يبدو أننا باقون في تيهنا ذاك ما لم يكن الدستور و القوانين إنعكاسا لعقيدتنا و ثقافتنا التي تسيطر علينا و لو تظاهر بعضنا-هداهم الله- بعكس ذلك... "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون"... و خير الكلام ما قل و دل.