ترفع كل الأنظمة السياسية في العالم شعارات مكافحة الفساد والشفافية في توزيع الثروات والفرص بين أبناء البلد. وفي بلدنا لم تكد تخلو أي مرحلة سياسية من شعار محاربة الفساد، لكن ذلك لم يحل دون تجذر الظاهرة، واستحكامها في كل مفاصل الحياة العامة. ولئن كان الفساد ظاهرة كونية فإنه في بعض البلدان، ومنها بلدنا للأسف، انتشر بشكل أفقي وعمودي حتى صار هو القاعدة في إدارة موارد الدولة، وماسواه يعتبر استثناء.
إن منظومة الفساد التي تشكلت عبر السنوات قضت على كل أمل تنموي، وبددت كل الثروات التي اكتشفت، وكل الموارد التي تم الحصول عليها بآليات التمويل المختلفة. ومن المؤسف أن هذه المنظومة أصبحت لها مع طول الوقت ثقافة اجتماعية مساندة، ومشجعة؛ حتى أصبح التفاخر بين أبناء المجتمع الموصوف بالتدين يتم بمستوى ما يتحصلون عليه من المال الحرام، وتحول نهب المال العام إلى: "رجولة"، "قوة"، "شخصية"، "اتفكريش"، "يكطعه ويركعه".
إن مكافحة الفساد خطوة لابد منها وهي متاحة إن توفرت الإرادة. لقد أدرك الفاعلون التنمويون خطورة الفساد على المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لذلك كانت هناك جهود كبيرة في اتجاه الإصلاح قامت بها الدولة وتبناها شركاؤنا في التنمية من أجل تشخيص هذه الآفة ووضع سبل محاربتها وكان هذا الجهد ضمن خطة متكاملة تهدف الى محاربة الفساد وترسيخ مفهوم الحكم الرشيد. لقد خلصت دراسات وتحاليل اغلب المنظمات الدولية العاملة في المجال الاقتصادي والمالي إلى أن بؤرة الفساد المرتبطة بالتنمية هي نظام الصفقات العمومية التي أصبح الفساد الخيط الناظم لها وتحولت التنمية في ظلها إلى جهد عبثي كمن يريد حمل الماء بالغربال، وبالتالي لم يعد بالمقدور مكافحة الفساد إلا بإصلاح نظام الصفقات العمومية.
وبإلقاء نظرة على الأرقام الواردة في التقارير الدورية الصادرة عن وزارة المالية والهيئات المشرفة على الصفقات في بلادنا تتبين أهمية الصفقات ووزنها في بند النفقات العامة من ميزانية الدولة، حيث تراوحت المبالغ التي تم صرفها سنويا في الصفقات العمومية خلال السنوات الأخيرة ما بين60 – 50 % من الإنفاق العام.
فالصفقات العامة ليست فقط مبالغ ضخمة يراد الحفاظ عليها بعيدا عن الفساد بل هي أيضا الرافعة الأساسية للتنمية التي تمس المواطن مباشرة (بناء منشآت عمومية: طرق، مستشفيات، مدارس، ...خدمات قاعدية: كهرباء، ماء، إتصالات، ...، معدات وتجهيزات، دراسات وخدمات، ...إلخ).
وقد مر قطاع الصفقات العمومية بمراحل نظمتها عدة مراسيم، لكنها لم تكن ناتجة عن إصلاح تشريعي ومؤسسي بقدر ما كانت تعبيرا عن حاجة إدارية لتسهيل تسيير معاملات الصفقات العمومية وابقت على الإختلالات القانونية والإجرائية التي كانت موجودة كما هي، وظل الخلل في الصفقات بابا مشرعا للفساد، حتى جاء الإصلاح الأخير الذي جسده القانون رقم 2010 – 044 المتضمن مدونة الصفقات العمومية والمراسيم المطبقة له والذي بدأ تنفيذه في شهر فبراير 2012.
لقد وضع الإصلاح الجديد بنية هيكلية لنظام الصفقات العمومية كانت مثالا متطورا يحاكي أفضل الممارسات التي لجأت إليها الدول لوضع آليات مكافحة الفساد وقد نص على إنشاء الهيئات التالية واستقلالية كل منها عن الأخرى:
- لجان إبرام الصفقات العمومية؛
- اللجنة الوطنية لرقابة الصفقات العمومية؛
- سلطة تنظيم الصفقات العمومية.
وقد ارتكز الإطار القانوني لهذا الإصلاح على المبادئ الثلاثة التالية:
- حرية الولوج إلى الطلبية العمومية
- تساوي معاملة المترشحين
- شفافية الإجراءات
وهذه المبادئ ملزمة للسلطات المتعاقدة في إطار إجراءات إبرام الصفقات العمومية.
كرس هذا الإصلاح سياسة فصل الوظائف الأساسية من "إبرام الصفقات" و"رقابتها" و"تنظيمها"، بعد أن كانت كل هذه الوظائف من اختصاص اللجنة المركزية للصفقات. وقد هدف هذا التنظيم المتوازن إلى تحقيق جملة من الأهداف، كانت هي خلاصة الرؤية التي توصلت إليها موريتانيا مع شركائها التنمويين، خاصة البنك الدولي. وأهم هذه الأهداف:
- إرساء سياسة شفافية تامة في الصفقات العمومية من حيث (حرية الولوج إلى الطلبية العمومية، تساوي معاملة المترشحين، شفافية الإجراءات)؛
- المساهمة في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الرشوة؛
- طمأنة المواطنين والفاعلين الاقتصاديين والشركاء في التنمية والمجتمع المدني على الاستخدام الأمثل للمصادر المالية؛
- إقناع الممولين بجاهزية النظام الاقتصادي لسياسة الدعم المالي؛
- تحسين مناخ الاستثمار الخارجي في موريتانيا.
وتوخيا لمزيد من الشفافية تم إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني في سلطة التنظيم ثلاثية التمثيل في جميع لجانها (مجلس التنظيم، لجنة فض النزاعات، واللجنة التأديبية).
عصر الشفافية
تميزت المرحلة الأولى من تنفيذ الاصلاح الجديد للصفقات بانسجام مع مضمون النصوص المنظمة للقطاع حيث عمدت السلطات إلى اكتتاب أطر: خبراء ومهندسين وإداريين في أغلب التخصصات لتسيير الهيئات الثلاث (الإبرام والرقابة والتنظيم) كما تميزت منظومة الصفقات باستقلالية تامة عن السلطات التنفيذية التي تعتبر المستفيد الأول من الصفقات. وقد تميزت المأمورية الأولى لرؤساء وأعضاء هذه الهيئات، وهي ثلاث سنوات حسب النصوص التشريعية، بأداء متميز رغم الثغرات القانونية. وسجلت البلاد نسبا جيدة في انخفاض مستويات الفساد إلى أن وصلت إلى الحد الذي لا يخلو منه أي نظام. وكان انعكاس اختيار الكفاءات الوطنية لتسيير الهيئات الثلاث واضحا جدا في احترام المساطر القانونية، ومحاولة التطبيق الصارم لها في إجراءات منح الصفقات العمومية ورقابتها وتنظيمها.
وكان المتوقع أن تكون المأمورية الثانية فرصة لسد الثغرات باستكمال الترسانة القانونية المنظمة للصفقات العمومية. وكان المراقبون ينتظرون الوقت الذي تتم فيه مراجعة القوانين لسد تلك الثغرات. إلا أن الأمور سارت في الاتجاه الآخر، ودخلت سريعا مسار الانحراف.
المرحلة الثانية وبداية الانحراف
لقد شكلت مناسبة تجديد أعضاء ورؤساء هيئات الصفقات العمومية مبررا كافيا لانحراف المنظومة باستغلال الثغرات القانونية لتتشكل منظومة موازية فصلت على مقاس الفساد دعمتها أوامر عليا وتدخل مباشر في بعض الأحيان من السلطات في منح الصفقات لتزيد نسبة المنح بالتراضي واللجوء لملحقات العقود على نطاق غير مسبوق أفرغ مشروع الإصلاح من مضمونه.
لقد تميزت هذه المرحلة غالبا بانعدام الشفافية وخرق الإجراءات التي يفرض القانون وافراغ الرقابة والمتابعة من مضامينها واسناد المسؤولية في بعض الأحيان إلى أشخاص تم اختيارهم على أساس الولاء وليس الكفاءة، وعزز هذا المنحى بإفساد نظام التعيين في الوظائف حيث لم تنظم مسابقات شفافة وإن أجريت تكون شكلية ومعروفة النتائج مسبقا. وبظهور التعديل الجديد (المرسوم 126 – 2017) الذي كرس تناقضات النصوص المنظمة للصفقات بدلا من حلها، فتح الباب على مصراعيه للفساد والمحسوبية والزبونية.
ويمكن على سبيل المثال تحديد مظاهر هذا الانحراف في الاختلالات التالية:
- عدم نشر المخططات والإعلانات العامة للصفقات من طرف بعض السلطات المتعاقدة. وهو إجراء يلزم به قانون الصفقات العمومية كل إدارات الدولة، ويقضي بنشر المشاريع والخدمات التي تنوي كل إدارة إنجازها خلال السنة لكي يتهيأ لها المشاركون بفترة كافية تقطع الطريق على التنفيذ الاستعجالي الذي يفتح باب التراضي وملحقات العقود التي تعتبر عنوانا بارزا من عناوين الفساد.
- عدم نشر القرارات في أغلب الأحيان، لكي يتسنى للخاسر الوقت القانوني الكافي للتظلم إذا رأى ظلما أو محاباة في منح الصفقة.
- عدم دقة ملفات المناقصات، بسبب غياب الخبرة والكفاءة لدى أغلب السلطات المتعاقدة بحيث لا يستطيع الموظف المعني تحديد ركائز العقود الهامة والشروط الضرورية التي تضمن تنفيذا مناسبا وجودة عالية.
- البطء المخل في إعداد ومعالجة الملفات، مما ينعكس سلبا على وتيرة تنفيذ المشاريع التنموية ويعود هذا الخلل إلى عدم اكتمال ونقص كفاءة أطقم اللجان المسيرة للصفقات.
- نقص الخبرات لدى أغلب اللجان المعنية بدراسة الملفات.
- عدم مراعاة الشفافية في منح بعض الصفقات.
- عدم احترام المواصفات الفنية التعاقدية في التنفيذ، وينتج هذا عن إسناد رقابة ومتابعة المشاريع لغير الأكفاء، أو الفاسدين المرتشين ممن يتغاضون عن التدقيق والرقابة.
- عدم توفير الضمانات المطلوبة قانونيا.
- شيوع اللجوء إلى الطرق الاستثنائية في منح الصفقات (التفاهم المباشر والملاحق).
- تدخل السلطات في مسار الإبرام والمنح لصالح أطراف معينة.
- الزبونية في اختيار الأشخاص لشغل مناصب حساسة في بعض هيئات الصفقات، وذلك بإقصاء أصحاب التجربة والخبرة والنزاهة من الإكتتاب في مجال الصفقات العمومية.
- استخدام مختلف الطرق للتهرب من الرقابة (تفويض إدارة المشاريع) حيث يقوم المتعهد بالمشروع بمنح التنفيذ إلى جهة خاصة لكي يفلت من الرقابة.
- عدم انسجام وتكامل مختلف الهيئات (الإبرام والرقابة والتنظيم) فيما بينها.
- قصور في أداء بعض هيئات المنظومة.
الطريق إلى الإصلاح
إن التجربة السابقة في مجال تطبيق القوانين المتعلقة بالصفقات العمومية، والتي أشرنا سابقا إلى أنها كانت "عصر شفافية" تؤكد شيئا واحدا هو أن الإصلاح ممكن، وربما يكون أسهل مما يتصور كثيرون. إن رصد الاختلالات التي أشرنا إليها أعلاه وتشخيصها من طرف السلطات المعنية ومن طرف الشركاء التنمويين لبلادنا ومن طرف خبراء وطنيين، كل ذلك شكل أرضية انطلاق للإصلاح الهيكلي والإداري والتشريعي لنظام الصفقات. وهي جوانب إصلاح لا غنى عن تكاملها لقيام نظام صفقات عمومية فعال وشفاف يسهم في التنمية الوطنية من خلال ترشيد الموارد وصرفها في مكانها الصحيح، وصولا إلى منتج صالح للاستخدام، قابل لأن يعيش عمره الطبيعي.
ما نحتاج إليه هو إعادة دراسة الجوانب المختلفة، وسد الثغرات فيها، وإعادة إطلاق القطار مجددا، مع تحصين القوانين الخاصة بالمجال وحمايتها من التلاعب من طرف منظومة الفساد.
ولا بد أن يطال الإصلاح مجددا الركائز الثلاث من خلال:
- البدء بالترسانة القانونية لمراجعتها وسد الثغرات والتناقضات فيها وإكمالها بتشريعات جديدة.
- الفصل بين السلطات الثلاث على المستوى الهيكلي (الإبرام والرقابة والتنظيم) وتوضيح صلاحيات كل منها.
- وضع نظام إداري واضح وصارم لاختيار الأطر، والترقيات والتعيينات، خاصة في المناصب الفنية التي تحتاج إلى الخبرة. وإبعادها عن التسييس والزبونية والمحسوبية.
هذا الإصلاح يجب أن يشرك فيه، عبر ورشات متخصصة، الخبراء القانونيون بالإضافة إلى خبراء الصفقات الذين مارسوا العمل وأطلعوا على القصور القانوني والهيكلي والثغرات التي يتسرب منها الفساد.
بعد أن تتم هذه الورشات وتوضع آلية فعالة وشفافة لتنفيذ مخرجاتها تكون هناك قواعد عامة تحكم عمل نظام الصفقات العمومية ونلخصها في الآتي:
- التطبيق الصارم لمضامين الإصلاح.
- ضمان استقلالية منظومة الصفقات العمومية.
- توفير الوسائل المادية والبشرية الضرورية لإصلاح منظومة الصفقات العمومية ووضعها على السكة.
- تكريس مبدأ المكافأة والعقوبة في مجال الصفقات العمومية.
- إشراك أصحاب الخبرة والنزاهة في تنفيذ إصلاح الصفقات العمومية.
- اعتماد مبدأ التكامل بين الهيئات المعنية بالصفقات العمومية (الإبرام والرقابة والتنظيم) بدلا من الصراع والتنافس.
- إعداد منصة وطنية مرجعية للنشر والإعلان في مجال الصفقات العمومية.