أولا - تذييل الشعر عند الفقيه محمد يحيى الولاتي
ظهرت في الشعر العربي على يد المولدين فنون شعرية عدة لم تكن مألوفة في عصور الشعر الأولى مكنت من توسعه معنى ومبنى ، وقد ارتبطت هذه الظاهرة في الشعر إلى حد كبير بشعر المديح النبوي غالبا ، حيث سعى الشعراء إلى معارضة القصائد المديحية أو تشطيرها أوتربيعها أوتخميسها أوتسبيعها وحتى تعشيرها أحيانا ، وذلك سعيا منهم لاتمام الفائدة فيما يقرأونه أو يسمعونه من شعر ، أوزيادة في الامتاع بإضفاء طابع جمالي على هذه القصائد ، حيث أن من هذه القصائد ما كانت موضع جذب ولفت لانتباه الشعراء لروعتها وجمال بنائها كالبردة والهمزية والشقراطيسية وغيرها.
وكانت للولاتيين بصمتهم في هذا المجال من الابداع الشعري كما يتجلى مما وصلنا من أشعارهم منذ القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين ، فمن قصيدة خير حمدي للإله لاند عبد الله المحجوبي ت 1037 هـ الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين[1] ، إلى تذييل قطب زمانه عمر الولي المحجوبي ت 1070 هـ للشقراطيسية في مدح خير البرية [2]، حيث يقول مذيلا للقصيدة[3]:
وصــــــل رب على المخـــتار ثانـــــــــية |
عدَّ الورى وعديد الطير والنَّقَلِ |
واغـــــــــفر لعبد مسيء اسمه عــــــــمر |
واغـــــــــفر لعبد مسيء اسمه عــــــــمر |
صلى علــــــيه صلاة لا انتــــــــهاء لها |
بها يكون شافعا لي من الوجل |
وارض عن آله والصحب تابعهم |
واغـــــــــــــــــفر يا رب لوالــــــــــدي ولي |
وقد مهر بعض الشعراء الولاتيين في مجال تذييل الشعر وتربيعه وتخميسه فتجلى في انتاجهم الشعري بشكل لافت كما هو الشأن مع الطالب علي بن الطالب عمر البرتلي ت 1179 هـ[4] ، الذي طغت مخمساته على شعره (مما سنخصص له الحلقة الثانية من هذا المقال إن شاء الله) ، والعلامة الفقيه محمد يحي الولاتي ت 1330 هـ ، الذي برزت ظاهرة التذييل بجلاء في شعره مما سنخصص له وقفتنا اليوم .
التذييل في الشعر :
اعتاد الشعراء أن تأتي ردة فعلهم بزيادة البناء الفني والمعنوي للنص الشعري نتيجة أمور عدة منها :
الاستحسان من خلال الاستماع كما هو الشأن مع القصائد التي تقرأ في مجالس المدح المعتادة في فضائنا الصحراوي ، أومن خلال المطالعة ، أواستجابة لطلب بالزيادة تكميلا للمعنى أوتوسعة فيه ، وهو ما يفسر لنا انقسام التذييل عند الشعراء إلى نوعين :
نوع يقصد به الختم للنص الشعري ، يكون بمثابة الطي لما نشر خلال النص من بسط للمآثر وذكر للمحاسن وتفنن في الابداع ، أوختم يجسد حضور المتلقي في العملية الابداعية ذاتها في أحد تجلياتها كما رأينا عند عمر الولي المحجوبي.
ونوع يقصد به التكميل للنص الشعري الذي يكون غالبا في صيغة بيت ، فيكون التذييل بمثابة نشر وبسط لما طوي في البيت المفرد كما سنرى عند الولاتي مثلا .
تذييل الشعر عند الولاتي :
تجلى التذييل عند الولاتي في النوع الثاني فجاء ما وصلنا من نصوص شعره مجسدا لهذا التوجه حيث نرى أنه يعمد إلى الأبيات المفردة فيبسط وينثر ما انطوت عليه ويتم بما جادت به قريحته من ابداع ، حيث أن نصوصه في التذييل تراوحت بين تسعة أبيات وعشرين بيتا مما جعل متوسط التذييل عنده في النصوص الثلاثة التي سنعرضها بمعدل خمسة عشر بيتا.
وقد اتخذ التذييل عند الولاتي منحيين :
1 - التذييل استجابة للطلب زيادة في المعنى وتكميلا :
وقد برز هذا النوع عند الولاتي في مجالسه العلمية التي كان يعقدها خلال رحلته الحجية ، ومن ذلك مجلسه العلمي في الرباط بالمغرب (رباط الفتح) ، حيث أقام بها خمسة أشهر سوى تسع ليال ، وارتاد هذا المجلس للأخذ عليه العالمان الجليلان الفقيه عبد الله التادلاوي ، والفقيه سيدي محمد إب الأمين وكانت حواراتهما الأدبية سببا في ظهور هذا المنتوج الشعري[5] .
وقد ارتبط النموذج الأول من التذييل بالمدينة النبوية وساكنها عليه أفضل الصلاة والتسليم حيث يقول الولاتي[6] :
وبينما أنا وأخي الفقيه سيدي محمد إب الأمين نتحاور في الكلام إذ قال لي : أنا نظمت في شأن المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام بيتا واحدا ، فذيله أنت بأبيات في شأنها وشأن ساكنها سيد الوجود ﷺ ، فقلت أسمعني بيتك ، فقال :
إن لاح وهــــــــــنا بريق من بَواديــــــــــها |
أوجــــــــــر ريح الصــــــــــبا ذيلا بِواديــــــــــها |
فق
لت أنا مذيلا له :
فذاك غيث الهدى سحت سحائبه |
على موات قلوب الناس يحيــيـــــــــــها |
بدا بطيـــــــــبة غيـــــــث الحق منسكـــــــبا |
على بقاع النهى والعلم ِ يسقيـــــــــها |
بوابــــــــــــــل من فـــــــــــــــيوض الله صيِّــــــــبة |
آي الكتاب ووحيٌ من معانيــــــــــــــها |
على فــــــــــــؤاد رســـــــــــول الله نـــــــــــــــــــــــزَّله |
روح أميـن على الأديان يوحيـــــــــــــــهـا |
فيــــضا من الله لا تقـــــضي عجائـــــبه |
وليـــــس يسطيعُ حدُّ العَدِّ يحصيـــــــها |
أمـــــطاره العلم والأعمــــــال روضـــــــــته |
وثــــــــــمرة الرَّوْضِ عِرفانٌ لباريــــــــــــــــــــــها |
والرعد دعـــوته تمت بصعقــــــــــــــــــــــــــتها |
كل الأَنام مُلَبِّـــــــــــــــــــيها وآبيـــــــــــــــــــــــــــــــها |
خصَّ الملــــــــــبون بالغيث المريع على |
تُرْب القــــــــلوب يــنقِّيـــها ويرويــــــــــــــــــها |
فأخصــــبت بقع الأرواح وابتهجت |
وافترَّ زهرُ الـهُدَى من كُمِّه فيــــــــــــــــها |
بكلِّ لونٍ أنـــــــــــــــــــــــــيقٍ ناعمٍ نَــــــــــــــــــضِرٍ |
تنــــــفي الجهالة ريَّاه وتشــفيــــــــــــــــــــــــــــــها |
ومن أبــَـى عــن قبـول الغيث كان له |
جدب وجهل بعين القلب يعميها |
ولا تزال غــــــــــيوث الحقِّ هامــــــــــــــــــــــــعة |
على القلوب ترقِّيـــــــــــــها وتَرْقيـــــــــــــــــــها |
من الجـــــــــــهالة والجـــــــــدب اللذين بها |
حتى تزيلهــــــــــــــما منـــــــــــــها وتبريــــــــــــــها |
تـهمِي بواســـــــــــطة الهادي النبي على |
من خصَّـــــــــــــــــــهُ الله بالإرشاد تنْبـيـــها |
بكلِّ عصر على مـــــــــــــــــــــرِّ الزمان إلى |
أن يأْمُر الله بالدنــــــــــــــــــــــيا فيفنيـــــــــــــــها |
إلا الذين قضى بالكــــــــــــــفر خالقهم |
عليهم ُ فيَــــــــــــــــــــــرَوْن الرُّشد تسفيـــــــــها |
فلا يُغــيثـــــــــــــهمُ الله الكــــــــــــــــــــــــــــــــــــريم بما |
غيث الرشاد بَلَى بزيـــــــــــــــــــهم تيـــــــــها |
يا رب بالمصطفى والآل سُنَّ لـــــــــــــــنا |
توبا نصـــوحا وتمحيــــــــــــــــصا وتنزيـــــــها |
عن الذُّنوب وفوزا بالـمـــــــــــمات على |
ديــــــــــــــــن النبي وترفيـــها وتنويـــــــــــــــــــها |
ثم الصلاة على المختار من مــــــــــــــــضر |
ما لاح وهــــــــنا بريق من بواديها |
ومما يلاحظ هنا أن الولاتي ذيل بيت محدثه بعشرين بيتا وختمه بعود على بدإ ليربط النص
وارتبط النموذج الثاني بمدح النبي ﷺ حيث يقول الولاتي[7]:
وبينما أنا وأخي سيدي عبد الله التادلاوي نتحاور ذات يوم إذ قال لي أنا قلت بيتا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فذيله بأبيات في مدحه صلى الله عليه وسلم ، فقلت له قل بيتك ، فقال :
ما لامـــــــرئ في ضُـــــــرُّه المنتاهي |
من ملـــــــجإ إلا عظـــــــيم الجاه |
فق
لت أنا مذيلا له بهذه الأبيات :
طه الشفــــــــــيعُ محمد خـــــــــــــــيرُ الــــــــــورَى |
خَــــــــــتْمُ النبوءَة ســــــــــيِّد الأنباه |
أصــــــــــل السَّعادة والسِّـــــــــــــيادة والهدَى |
بحر السَّماحة عادِمُ الأشباه |
فَبِقَــــــــــفْوِ سنَّــــــــــــــــــــته ونُصــــــــــرة ديــــــــــــــــــنه |
وبحــــــــــبِّه فَلْيَفْــــــــــخَرِ الْـمُتــــــــــباه |
من كل مــــــــــكروب لضيــــــــــــــــمِ زمــــــــــانه |
وغُلُوِّهِ في الجــــــــــهل والتِّسْفاه |
فليستــــــــــــــــــــعذ من كــــــــــــــــــــــــــربه وغُلُــــــــــوِّه |
بحمــــــــــَى النبي الصادق الأوَّاه |
فهو الغياثُ من الردَى والغَيْـــــــــثُ من |
جدبٍ وجهلٍ والدَّوا لِدَواه |
غاث القلوب من العمَى بِجَدا الهدَى |
فتبــــــــــصَّرت وتوجَّــــــــــهت لله |
وســــــــــقَى بدعــــــــــــــــــــوته الأنام بـــــــــــــــوابلٍ |
غَمَرَ الفَلا بالرَّوض والميـــــــاه |
رُدَّت بيُمــــــــــــــــــــــــــْن يـميــــــــــنه لِقــــــــــــــــــــتادة |
عيناه بعد عمًى وأَعْظَمِ عاه |
وســــــــــعَى له المكسور عــــــــــند ندائــــــــــــه |
مجـــــــــبورَ كسرٍ كامـل الاكناه |
وبلَمــــــــــسه ردت يـــــــــــــــــــــمين مــــــــــــــــــــعوذ |
مـــــــن بعد قطع دونما إكراه |
يا ربــَّــــــــنا إنِّي إلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيك بـجاهــــــــــه |
مُــــــــــتوسِّل في غيبتــــــــي وتجاه |
فاغــــــــــفر ذنــــــــــوبي واقضــــــــــــــــــــينَّ مآربي |
وقِــــــــــني مخاوف زلتي ومـلاه |
وأجــــــــــب دعائي واقبــــــــــلنَّ توســــــــــــــلي |
بمحمد الهادي بن عــــبد الله |
صــــــــــلى علــــــــــيه الله ما اتَّصـــــــــــــــلت به |
من ربه الرُّحْمَى بغــــــــــير تــــــناه |
وعلَى الــــــــــكرام الطاهرين مـــن الأذَى |
آل النــــــــــبي وصحــــــــــــــبه النُّزَّاه |
2 - التذييل استحسانا نتيجة سماع أومطالعة : وهذا النوع من التذييل إنما يتأتى من الاستماع والمطالعة حين يسمع الشاعر أويقرأ ما يستجيده من الشعر ويحرك مشاعره فتجود قريحته ومن ذلك ما كتبه الولاتي حين قراءته لبيت من الشعر في وصف شرف مدينة المصطفى ﷺ حيث يقول رحمه الله [8]: وفي حكاية الوفا[9] هذا البيت وهو هذا في شرف المدينة النبوية:
أرض مَشَى جبريل في عرصاتها |
والله فـــــــضل أرضـــها وســماها |
وذيله الكاتب محمد يحيى بن محمد المختار فقال :
ومَشَى بها خير البـــــــــرية وازدهت |
سهوله فيها وفاح شـــــــذاهـــــــــا |
وتطهـــــــــرت وتقدســـــــــت بـــمقامه |
فيها وطاب بفضله مغــــــــــناها |
وتزايدت بركاتــــــــــها وتـــــــــضاعفت |
رحـــــــماتها وانزاح عنــــها وباها |
وبدفنه فيـــــــــها تكامـــــــــل فضـــــــــلها |
فــــــــعلَى كل البـــــــقاع عــــــــــلاها |
هي طيبـــــــــة دار النـــــــــبي وحــــــــــــــــــبه |
أطنــــــــــــــابها وجــــــــــــــبالها ورباها [10] |
حرمـــــــــت به لا تُجْتَـــــــــلَى أشجارها |
أبدا ويحرم صيد ما بحـــــــماها |
يا رب بالهادي الأمين وصحـــــــــبه |
يسر لنا أن نحتمي بحــــــــــماها |
ونزور قـــــــــبر المصطفى ونقـــــــــــــر بها |
عينا بلثـــــــم ترابها وكُــــــــــــــــــــداها |
صلى عليه الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [11] |
نفس المحب وهاجرت مأواها |
وهكذا ارتبط التذييل عند الولاتي بالمديح النبوي في صوره وتجلياته المختلفة ، وهو ما ينطبق على تخميس البرتلي مما سنراه بعون الله في الحلقة القادمة من نماذج من فنون الشعر عند الولاتيين .
[1] - فتح الشكور في معرفة أعيان علما التكرور / الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي /تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي /دار الغرب الإسلامي /بيروت 1981 / ترجمة 156 / ص 159
[2] - فتح الشكور في معرفة أعيان علما التكرور / الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي / ترجمة 178 / ص 178
[3] - مكتبة الطالب ببكر بن احمد المصطفى المحجوبي حيث تتوفر عدة نسخ من النص وتذييله
[4] - فتح الشكور في معرفة أعيان علما التكرور / الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي /ترجمة 195 / ص 200
[5] - الرحلة الحجازية / الفقيه محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي / تحقيق وتعليق الدكتور محمد حجي / دار الغرب الإسلامي / ط 1 /1990 / ص 157
[6] - الرحلة الحجازية / الفقيه محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي / ص 158 - 159
[7] - الرحلة الحجازية / الفقيه محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي /ص 160 - 161
[8] - ورد هذا التذيييل في ختام نسخة للولاتي من رسالة الشيخ سيد المختار بن الشيخ سيدي محمد إلى الأمير أحمد لب بن محمد بن ابي بكر بن سعيد
[9] - يشير هنا إلى كتاب : وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وسلم
[10] - كتب هذا الشطر في الأصل هكذا (أجبالها وبطاحها ورباها) وصحح في الهامش من قبل الشاعر بما اثبتناه في النص
[11] - لم أتمكن من قراءة الكلمة هنا وملت إلى القول إنها ربما : (ما تعلقت) والله أعلم