يروى أن الرئيس التنوسي الأسبق سأل زميله الليبي مستغربا : لماذا تنفق كل هذه الأموال على المخابرات و ليس على التعليم؟... كانت الإجابة أن الأمر يتعلق بتخوفه من الثورة عندما يتعلم الناس فيدركون حقائق الأمور... لكن الرئيس التونسي علق على هذا الجواب بقوله: في كل الأحوال سيكون من الأفضل لك أن يثور عليك شعب متعلم لديه قيم و أخلاق تلجمه بدل شعب أمي سيقتلك شر قتلة...
لست أدري لهذه القصة _ رغم تداولها _ سندا يعتد به و لكن الذي يهمني منها هو الفكرة التي توحي بها... إن الحكاية تلخص لنا مأساة الشعوب المنكوبة و تعطينا فكرة عن نوعية التفكير لدى بعض من تسلقوا ذات خلسة الى مواقع القيادة في تلك الدول... و مواقع القيادة ليست فقط "الرئاسة" و ما حولها كما قد يتوهم البسطاء و إنما كل موقع يفترض أن يكون فيه مسؤول ينتظر منه إنجاز فارق ينفع الناس و يمكث الأرض... هؤلاء المتسلقون خلسة إما أنهم أغبياء حدّ الشفقة أو أن لديهم قناعة راسخة بأن الشعوب التي يتحكمون فيها غبية أو على الأرجح الاثنان معا... و النتيجة في كل الأحوال سيان.
***
قال رجل لابنه : سأذهب أخطب لك يا بني؟... رفض الابن لأنه يريد أن يختار زوجته بنفسه... قال له أبوه سأخطب لك ابنة الرئيس فوافق الابن دون تردد...
ذهب الأب الى الرئيس خاطبا لابنه فرفض الرئيس بشدة... قال الأب للرئيس إن ابني موظف سامي في البنك المركزي فوافق الرئيس على الفور...
ذهب الأب الى مدير البنك و قال له: أريدك أن تعين ابني موظفا ساميا في البنك ... رفض المدير الطلب لكن الأب أخبره أن ابنه هو زوج ابنة الرئيس فأصدر مدير البنك مذكرة تعيين في الحال...
و هكذا بهذه الحيلة البسيطة وجد الأب منصبا ساميا لابنه الفاشل و صار هو نفسه صهرا للسيد الرئيس...
معظم السياسيين و رجال المال عندنا _ دون تعميم_ بنوا مجدهم خلال السنوات الأخيرة بهذه الطريقة ... بينما أصحاب الشهادات العالية و الخبرات الطويلة يتظاهرون مع طلوع كل شمس على شارع القصر الرمادي دون أن يحس بهم أحد...
سيكون من المستحيل إقناع الناس بأهمية التعليم و هم يرون المال و الجاه و الحظوة في أيدي لصوص جهلة بينما الذين درسوا سنين عددا و تخرجوا بشهادات عالية يعيشون الفقر و التهميش و الاحتقار أينما حلوا... ليست أدري ما الذي سيدفع أحدهم في مثل هذه الظروف الى السعي الى أن يكون في المقدمة و هو يشاهد الذنب يقود و يسود...
***
من الأمور المتفق عليها عند الخبراء أن مدى التقدم و التحضر في الأمم يرتبط سلبا و إيجابا بنسبة التعلم في هذه المجتمعات.... فحيث ما حلت الأمية وحط الجهل رحاله يجد الفقر و التخلف البيئة المناسبة للتكاثر و الازدهار و الانتشار... وعادة في مثل هذه البيئة الاجتماعية المليئة بالجهل و التخلف:
تكثر الخلافات على الأمور التافهة و تنتشر الفتن و بالتالي تهتز أسس السلم الاجتماعي و تحدث الحروب الأهلية التي تأتي على الأخضر و اليابس لأسباب تافهة لا يقرها عقل أو دين مما يدمر العمران و يؤدي إلى الإفساد في الأرض التي أمر الله بعمرانها و الإصلاح فيها بدل الإفساد.
تنقلب المعايير رأسا على عقب فيحدث التمايز على أساس القيم الفاسدة بدل التي تقررت عقلا و دينا عبر تاريخ الإنسانية الطويل... فتسود –في مثل هذه الظروف- قيمة اللون و العرق و الطبقة و الجهة و حتى الشكل بدل قيمة الإصلاح و الصدق و الامانة و القوة و الصلاح و التفاني و الإخلاص و الإيثار
تفسد الأخلاق و تنهار القيم و قد صدق من قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وعندئذ تنتشر الفواحش و الرذائل و يختفي الطهر و العفاف و النقاء ...فتنشر المخدرات و كل انواع المؤثرات العقلية مما يؤدي الى تهديد المجتمع في أمنه و معاشه وهكذا تنهار الحياة الانسانية و تهوى اسفل سافلين.
و العكس يحدث في المجتمعات المتعلمة ... ففيها تسود القيم الأصيلة (فطرة الله التي فطر الناس عليها) فينسجم المجتمع و تشيع قيم التعايش و السلم الاجتماعي ويحترم الإنسان لأخيه الإنسان حقه في الحياة و الحرية على ارض الله... وصدق الله العظيم: (قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون)
لقد تنبهت أمم كثيرة الى هذه الحقيقة فجندت طاقاتها المادية و البشرية في سبيل نشر العلم و جعل طلبه و تحصيله ثقافة أصيلة لدى كل مواطن مغروسة في كيانه و وجدانه منذ نعومة أظافره... فلا غرو إن وجدنا مثل هذه الأمم تدير العالم سياسة و اقتصادا و صناعة رغم ضحالة مواردها و كنوزها من الذهب و الفضة و النفط .....
و العكس تماما تراه في مجتمعات الأمية و الجهل ... إنهم يعيشون خارج إطار الزمن ... و التاريخ... و خارج الجغرافيا في عالم الخرافات و الأوهام ... يقتاتون على النفايات و الفضلات التي يرميها لهم العالم المتحضر....
هذه المجتمعات البائسة تعيش على الأوهام ... فحروبها و معاركها غالبا ما تكون وهمية ... و تصوراتها عن الحياة و الكون مشوهة و قيمها الاجتماعية مقلوبة و معكوسة ....
في هذه المجتمعات البائسة تولد البطالة و يتكاثر الكسل و يقل الإنتاج و تنمو وتزدهر كل الأوبئة و الأمراض الاجتماعية بكل أنواعها المعنوية و المادية... و فيها يموت الأمل و ينعدم الطموح ...
في مجتمعات الجهل- هذه - لا قيمة و لا مكانة –مرموقة- للعلم أو لمؤسساته و لا لمن يعلمه و يلقنه للناشئة... لأن هذه المجتمعات قد أنتجت ثقافة تهين و تحتقر المؤسسات العلمية ومن يعلم و يتعلم فيها على السواء...
***
يقول رئيس الوزراء الماليزي الأسبق إن مشاكل الدول لا حصر لها و لكن حلها كلها يبدأ بالتعليم... و كل محاولات النهوض التي نهض أصحابها فعلا كانت ترتكز على التعليم... على الاستثمار في الإنسان تعليما و تكوينا و تدريبا... الذين حاولوا النهوض بوسائل خرى بقوا في مكانهم لم يتقدموا قيد أنملة...
هل تريدون مثالا حيا على أهمية التعليم في عملية النهوض؟.
***
بعد الانفصال عن ماليزيا سنة 1965 شهدت سنغافوة وضعا مترديا جدا تسوده الفوضى والبطالة والفقر وعدم الاستقرار ... كانوا يعتمدون على مواردهم من بلدان أخرى ... فقد كانوا يأتون بالأتربة من ماليزيا محمولة على القوارب و السفن ليبنوا بها داخل الجزيرة لانعدام التربة بداخلها ... كانت المعاناة الكبرى هي قلة وشحة المياه فقد كانوا يستوردون المياه أيضا من ماليزيا... كان التخلف والثقافة المنحطة تعكسان مدى تدهور هذا البلد الصغير الفقير ... كانت الشوارع مليئة بالمخلفات الضارة التي تفوح من الصرف الصحي وبقايا الأكل التي ترمى إلى الشوارع ...
بدأت قصة نهضة سنغافورة مع المحامي "لي كوان يو" الذي اعتمد في سياسته على الاستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية ... و هكذا شقت سنغافورة طريقها معتمدة على الثروة البشرية و إعداد و توظيف ذوي الكفاءات... رأى "لي كوان يو" أن لا نهضة اقتصادية إلا بالاستثمار في الفرد وتأهيله فتم وضع مناهج علمية حديثة ركزت على بناء المعلم الذي هو القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة...
أين أصبحت سنغافورة اليوم؟... أصبحت رابع أهم مركز مالي في العالم وخامس أغنى دول العالم من حيث احتياطات العملة الصعبة، و ثالث أكبر مصدر للعملة الأجنبية حيث يصل إلى سنغافورة خمسة مليون ونصف سائح سنوياً... بلغ معدل الدخل الفردي من النتاج القومي الإجمالي أربعة وستون ألف دولار (في عام 2013م) لتحلل سنغافورة بذلك الترتيب الثالث على مستوى العالم... معدل البطالة لا يصل إلى ثلاثة بالمائة و تعتبر المركز المالي والتكنولوجي الأول في المنطقة... سنغافورة هي أنظف مدينة في العالم... جميلة المنظر طيبة الهواء... فناطحات السحاب والمباني ذات الأشكال الهندسية الحديثة الراقية وشموخ النخيل والأشجار والحدائق الخضراء تجعل من ستغافورة جنة الناس في الأرض.
***
بالإضافة الى التركيز على التعليم و التكون و التدريب كأساس للنهوض فرضت سنغافورة قوانين صارمة و جعلت عقوبات حاسمة لمن يرتكب أي نوع من المخالفات الممنوعة ولذلك سميّت ستغافورة ببلد القوانين... هل قرأتم شيئا عن أغرب القوانين في العالم؟...
توجد قوانين غريبة جداً مفروضة في سنغافورة:
إن أخدت صورة أو أكلت أو حتى إن شربت الماء وأنت على متن المترو ستدفع غرامة قد تصل إلى 500 دولار.
بعد قضائك حاجتك تأكد من عدم ترك شيء خلفك وإلا سيكون عليك أن تدفع 150 دولارا.
هدف سنغافورة ليس النظافة البيئية فقط بل والصحة أيضا لمواطنيها، فسيجارة واحدة بالشارع قد تكلفك 720 دولارا أي ما يعادل ألاف العلب.
من المعروف لدى جل الدول أن التجول في حالة عاري في الشارع جريمة يعاقب عليها القانون، لكن سنغافورة تعاقبك إن تجولت في باحة منزلك عاريا بغرامة كبيرة تصل إلى 1000 دولار.
لا ترم أي شيء في الشارع فالعقوبة ليست مادية فقط... فإضافة إلى 300 دولار، يجب أن تؤدي مدة لابأس بها في الخدمات الاجتماعية.
العلك "اشوينكم" ممنوع ونادر هناك في سنغافورة وإن ضبطت وأنت تمضغه، فعليك أن تسدد لخزينة الدولة 5500 دولار و ستقضي سنة في السجن.
إن حاولت أن تعبر الشارع من ممر غير مخصص للراجلين فستجد نفسك في ورطة... ستقضي سمة أشهر بالسجن أو تدفع غرامة 2000 قدرها دولار.
***
و الآن ما رأيكم في سن مثل هذه القانونين في بلاد السيبة:
التبول في الشارع ممنوع و عقوبته 500 أوقية جديدة
نشر الفراش على قارعة الشارع العام ممنوع و عقوبته 5000 أوقية جديده
نزع السراويل في المساجد ممنوع و عقوبته 5000 أوقية جديدة
النخامة و البصاق و "انفير" في الأماكن العامة كلها ممنوعات عقوبتها 500 أوقية جديدة
الطبخ على قارعة الطرق (اتكوزي) ممنوع و عقوبته 500 أوقية جديدة
المبالغة في التزين و التعطر في الشارع و الأماكن العامة ممنوع و عقوبته 5000 أوقية جديدة
التدخين و الشم في الأماكن العامة ممنوعات و عقوبتها 500 أوقية جديدة
مزاولة أية مهنة دون ترخيص أو شهادة ممنوعة وعقوبتها 500 أوقية جديدة
محاولة تشييد المنازل دون مخطط عمراني فني ممنوع وعقوبته 5000 أوقية جديدة
التوظيف و الترقية دون خوض مسابقة شفافة و نزيهة ممنوع و عقوبة الموظف(بتشديد و كسر الظاء) و الموظف(بتشديد و فتح الظاء) 50000 أوقية جديدة.
و هكذا...
أعلم أن أحدهم سيقول لي : هذا لا يصلح ل"موريتان" ... "خلو الناس أتعيش"... حسنا ... القوانين مزعجة بالفعل بالنسبة للذين ينتهي طموحهم عند "العيش"... القوانين مفيدة و ضرورية للذين يتطلعون الى الحياة و ليس الى "العيش"... لست أدرى إن كنا ندرك الفرق بين الإثنين ...
***
بإمكانكم قصّ و تتبع أثر كل الشعوب التي نهضت قديما و حديثا و ستجدون أن ذلك حصل أولا عندما أعلت تلك الشعوب من شأن العلم و التعلم و المعلم... و ثانيا عندما سنت من القوانين ما يصلح به حالها _ أقول سنت و لا أقول أستجلبت _ و كانت صارمة في تطبيق تلك القوانين... أما ثالثة الأثافي فهي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب إذ لا سبيل و لا أمل في أي نهوض عندما تؤول القيادة للذنب بدل الرأس... الذنب عندما يقود فليس لنا أن نتوقع إلا مزيدا من التقهقر... و ذاك هو مثلث الأثافي الضروري لكل نهوض جاد ... و خير الكلام ما قل و دل.