الفلسفــة بين الاستغناء عنها والحاجة إليها / زين العابدين محمد العباس

تعد الفلسفة من أقدم البحوث التي وضعها الإنسان وأولى محاولاته الفكرية وتعرف على أنها دراسة عقلية شاملة للوجود الإنساني، وقد كانت في الماضي تضم في طياتها كل العلوم لكن مع مطلع القرن 17م حدثت ظاهرة فكرية مهمة تمثلت في انفصال العلوم عن الفلسفة، وذلك بعد استخدامها للمنهج التجريبي الإستقرائي الذي حققت بفضله تقدما وتطورا كبيرا ونتائج جليلة عادت بالفائدة على البشرية الأمر الذي أدى إلى تزعزع مكانة الفلسفة وتراجعها في الأوساط الفكرية، وقد أثارت مشكلة مكانة الفلسفة في زمن التطور العلمي والتكنولوجي جدلا واسعا بين الفلاسفة والمفكرين فانقسموا إلى تيارين متعارضين؛ تيار يرى أنه يجب الاستغناء عن الفلسفة لأنها تعيق تقدم العلم وتيار يرى أنها لازالت ضرورية ولايمكن الاستغناء عنها، وأمام هذا الجدل فإن الإشكال الذي يمكن طرحه هو : هل يمكن الاستغناء عن التفلسف أم لا ؟ أو بمعنى آخر هل أصبح الإنسان في غنى عن الفلسفة في ظل التطور العلمي ؟

يرى جمهور من الباحثين أن الفلسفة لم تعد هناك ضرورة لوجودها لأن انفصال العلوم عنها وما صاحبه من تطور بفضل استخدامها للمنهج التجريبي لم يبقي لها أي دور تؤديه في حياة الإنسان؛ فالإنسان المعاصر أصبح ينفر من الفلسفة لأنه وجد في العلم كل ما يلبي مطالبه و يتبنى هذا الرأي كل من "غوبلو، باشلار، كونت" وقد برروا موقفهم هذا بالحجج التالية :

- إن الفلسفة مجرد كلام عديم الفائدة ولا طائل منه وبحث عبثي لا يصل إلى نتائج قطعية تتعدد فيها الأراء المتناقضة و يكثر فيها الجدال العقيم فهي تقدم تساؤلات لاحلول لها، ولا تقدم للإنسان أي فائدة في حياته العملية؛ فالفلسفة تشبه البحث عن "قبعة سوداء في غرفة مظلمة" لاوجود لها، في حين أن الواقع لايعترف إلا بالنتائج الملموسة وهذا ما استطاعت أن تحققه مختلف العلوم التي عادت بالفائدة على الإنسان في مختلف جوانب حياته، لذلك يقول بيرس "إن الفكر هو أولا وآخرا ودائما من أجل العمل"، فما عجزت الفلسفة عن تقديمه طيلة قرون استطاع العلم أن يحققه في ظرف وجيز.

- كما يثبت الواقع أن الزمن الذي نعيش فيه اليوم هو زمن العلم والتكنولوجيا وتقدم الأمم يقاس بمدى ما تقدمه من نتائج على الصعيد العلمي والتكنولوجي لابما تقدمه من أفكار وآراء فلسفية "كاليابان التي تحتل صدارة الدول المتطورة"، لذلك يرى «أوجست كونت» أنه يجب التخلص منها وترك المجال للعلم الذي أفاد الإنسان في حل مشاكله وفهم واقعه وتغييره، فالفكر البشري حسب كونت مر بثلاث مراحل هي : المرحلة اللاهوتية (الدينية) "التي تفسر الظواهر تفسيرا غيبيا لاهوتيا" ثم المرحلة الميتافيزيقية (الفلسفية) وهي التي تفسر الظواهر تفسيرا عقليا وتبحث في عللها الأولى "ثم يتطور العلم لينتهي إلى المرحلة الوضعية (العلمية)" والتي تهتم بالكشف عن القوانين العلمية والأسباب المباشرة للظواهر عن طريق الملاحظة والتجربة الحسية"، فالمعرفة العلمية من خلال قانون الأحوال الثلاث تمثل آخر مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري، وأن الفكر البشري في هذه المرحلة الوضعية - العلمية - قد تخلى عن كل الاعتبارات الميتافيزيقية والفلسفية التي لم تكن سوى محاولات فاشلة لتفسير ظواهر الكون، فوجه أنظاره نحو الظواهر الطبيعية والإنسانية لاكتشاف القوانين الثابتة التي تسيرها وتربط بعضها ببعض في علاقات كمية دقيقة، فهو أصبح يهتم بالإجابة عن سؤال"كيف ؟" ولم يعد يهمه البحث عن الإجابة لسؤال"لماذا ؟".

- فالفلسفة تبقى مجرد قوالب فارغة ومصطلحات مبهمة لا يفهمها إلا أصحابها وكثيرا ما يلجأ الفلاسفة إلى التعقيد والتعبير عن آرائهم الفلسفية بلغة غامضة، لذلك يقول لانيو : "التفلسف هو تفسير الواضح بالغامض"، ويقال كذلك "لكي تكون فيلسوفا يجب أن تكون لك القدرة على قول كلام غامض".

- كما أن أكبر إنتاجات الفلسفة تمثلت في التفكير الميتافيزيقي والمنطق الصوري اللذين لقيا انتقادا لاذعا، واعتبرهما الكثير من المفكرين أنهما الحاجز الذي منع الإنسان من التقدم، لذلك يقول باشلار : "الحقائق الأولى أخطاء أولى".

- إن الفلسفة لا تتوفر فيها معايير وشروط المعرفة العلمية فهي تصورات وآراء ذاتية مرتبطة بالحياة الخاصة لكل فيلسوف وتعكس ظروفه وواقعه الاجتماعي كما أنها لا تنتهي إلى نتائج قطعية تعبر عنها باللغة العادية التي لا تمت للعلم بصلة عكس ما نجده في العلوم الأخرى كالفيزياء والبيولوجيا والفلك التي تتصف نتائجها بالدقة والموضوعية وتعبر عنها بصيغ رياضية، لذلك يقول غوبلو : "المعرفة التي ليست معرفة علمية ليست معرفة بل جهل".

- كما أن انفصال العلوم عن الفلسفة جردها من مختلف مواضيعها خاصة التطور الذي حققته العلوم الإنسانية من خلال اعتمادها التجربة، حيث أصبحت تتكفل بدراسة الإنسان ومعالجة مشاكله النفسية والاجتماعية والتاريخية التي كانت تمثل لب الفلسفة، وهذا ما جعل بقاء الفلسفة ليس له ما يبرره. يقول القائلون بعدميتها !!.

من الموضوعي أن نقول إن الفلسفة تراجعت مكانتها في عصر التطور التكنولوجي، إلا أن هذا التيار بالغ في رفضه لها؛ فالفلسفة تأمل وتفكير عقلي والدعوة إلى إلغائها هي دعوة إلى إلغاء العقل والوجود الإنساني، كما أن رفضها يحتاج إلى تبريره بحجج وأدلة، وهذا في حد ذاته تفلسف فهذا الاتجاه يرفض الفلسفة بالفلسفة وهذا تناقض، لذلك يقول باسكال : "كل تهجم على الفلسفة هو تفلسف ".

والحق أن الفلسفة ضرورة فكرية ملازمة لوجود الإنسان لا يمكن الاستغناء عنها وليس بمقدور العلم أن يحل محلها فالعلم لا يستطيع أن يجيب عن كل ما يشغل ذهن الإنسان من تساؤلات، خاصة تلك المرتبطة بصميم وجوده والتي هي من اختصاص الفلسفة، فالعلم لا يشكل أي تهديد لها؛ لأنها نمط خاص من التفكير بعيد عن العلم، فإذا كان العلم يهدف إلى تفسير الظواهر والوصول إلى القانون الثابت الذي تنتظم فيه الظواهر، فإن الفلسفة محاولة فهم تجربة الإنسان مع ذاته وتجربته مع العالم، ويتبنى هذا الموقف كل من "ديكارت راسل أرسطو" وحججهم في ذلك مايلي :

- إن التفلسف ظاهرة طبيعية في الإنسان وميزة من ميزاته فالإنسان دائم التفكير في مستقبله ومصيره وفي كل ما يثير مخاوفه وقلقه؛ كالموت والضعف والفشل، فالفلسفة ضرورة فكرية تتعلق بوجوده وتعبر عنه، ومن خلالها استطاع ديكارت أن يثبت وجوده عن طريق [الكوجيتو] "أنا أفكر إذن أنا موجود"، فالإنسان لا يستطيع التوقف عن التفكير إلا إذا فارق الحياة، ويرى ديكارت أن تقدم الأمم مرهون بما تقدمه من منتوج فكري فلسفي، حيث يقول : "إن الفلسفة تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين وحضارة كل أمة تقاس بقدرة أناسها على التفلسف".

- إن الفلسفة سلوك فطري يولد مع الإنسان ولا ينعدم إلا بانعدامه فهي عبارة عن تساؤلات يطرحها الإنسان باستمرار منذ صغره إلى آخر عمره؛ فنحن نجد الطفل الصغير يتساءل عن مصير الأموات وحقيقة الخلق وهي قضايا ميتافيزيقية تعبر عن ميل الإنسان الفطري إلى التفلسف، لذلك يقول أرسطو : "لا نستطيع التوقف عن التفلسف إلا إذا توقفنا عن التنفس".

- كما أن الفلسفة باعتبارها تفكيرا وتساؤلا مستمرا فهي تساعدنا على تنمية قدراتنا العقلية؛ فتوسع خيال الإنسان وتنمي ذكاءه وتحثه على الإبداع وترفع سقف آفاق وطموحات العقل البشري وتجعله في بحث مستمر عن الحقيقة، يقول راسل : "إن الفلسفة توسع عقولنا وتحررها من عقال العرف والتقاليد" فهي بحكم طبيعتها التساؤلية والإشكالية تجعل العقل دائم البحث والتفكير، لذلك يقول كارل ياسبيرس : "إن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة".

- كما تلعب الفلسفة دور كبير في تغيير الواقع الاجتماعي السيء وتساهم في إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والدينية داخل المجتمع، وذلك من خلال الطابع النقدي الذي تمتاز به؛ فالتاريخ مليء بالشواهد التي تبرز معارضة الفلاسفة لمظاهر الجور والظلم في مجتمعاتهم مثل (التسامح الديني في العصر الوسيط) الذي حمل لواءه فلاسفة أمثال [فولتير ومونتسكيو]، وكذا نظرية ماركس التي جاءت كردة فعل على الظلم والاستغلال الذي مارسته الرأسمالية.

- ونجد الدين الإسلامي بدوره يحث على ضرورة التأمل والتدبر والتفكير في قضايا ومسائل الوجود والخلق حيث يرى ابن رشد أن الدين يدعو إلى استعمال العقل وأن الفلسفة لا تعارض الدين بل تعززه وتقويه فالحق حسبه لا يتعارض مع الحق، ونجد في القرآن الكريم مواضع كثيرة تدعو إلى استعمال العقل منها قول الله تعالى : {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}، وقوله تعالى : {{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}}.

- كما أن الواقع يثبت أن الفلسفة في كثير من الأحيان تغطي عجز العلم مثل الطب فهناك "عدة حالات فشل الأطباء في علاجها" لكن الفلسفة عن طريق «علم النفس» تمكنت من ذلك، إضافة إلى أن هناك قضايا كثيرة تهم الإنسان لايستطيع العلم أن يدرسها مثل الحرية العدالة الأخلاق ... إلخ، والتي تمثل أهم مواضيع الفلسفة، لذلك يقول راسل : "هناك قضايا خطيرة في الحياة لايستطيع العلم أن يعالجها".

ومهما يكن الأمر فإن الفلسفة لها بعض الجوانب الإيجابية، وقدمت للإنسان بعض الإسهامات إلا أن هذا التيار بالغ في تمجيده لها هو الآخر، فالواقع يثبت تراجع مكانتها وأن الإنسان أصبح ينفر منها؛ "حيث أصبحت شعارا للتخلف والرجعية فالحياة المعاصرة لم تعد تولي اهتماما للتفكير الفلسفي ولا تعترف إلا بالنتائج المادية التي تحقق المنفعة" !!.

ورغم ذلك فلا مناص من الاعتراف بأن الفلسفة والعلم يكملان بعضهما وتجمعهما علاقة وظيفية؛ فالفلسفة دائما ما تصحح مسار العلم وتنتقد سلبياته وتكشف عيوبه وتعيد توجيهه نحو المسار الصحيح وهذا ما تمثل في مبحث الإبستمولوجيا، يقول هيجل : "الفلسفة تأتي في المساء بعد أن يكون العلم قد ولد فجرا"، ويقول ويل ديورانت : "الفلسفة بدون علم عاجزة والعلم بدون فلسفة مدمر كما أن العديد من الأسئلة والقضايا الفلسفية التي كانت تؤرق كاهل الإنسان اتخذها العلم مواضيعا له وأجاب عليها وعنها، مثل «قانون الجاذبية»، لذلك يقول راسل : "الفلسفة تسأل والعلم يجيب".

وعليه فرغم تراجع مكانة الفلسفة ورغم العيوب التي بقيت متأصلة فيها إلا أنها تبقى ضرورية للإنسان، فمهما وصل إليه من تطور علمي، إلا أنه يبقى بحاجة إلى التفكير الفلسفي؛ لأن هناك قضايا لا يستطيع العلم الخوض فيها !!.

وكحل لهذه المشكلة الجدلية يمكن الحكم بأن الفلسفة والعلم متكاملان ومترابطان وكلاهما ضروري لحياة الإنسان؛ فالعلم ضروري لما يحققه من منفعة وفائدة في الجانب المادي لحياة الإنسان، وضرورة الفلسفة تتمثل فيما تحققه من فائدة في الجانب الروحي للإنسان، فلا أحد ينكر ما حققته الفلسفة من إصلاحات على الصعيد الاجتماعي والديني والسياسي، كما لا ننكر ما قدمه العلم من إسهامات سهلت حياة الإنسان، وبالتالي فلا يمكن تصور علم بدون فلسفة ولا فلسفة بدون علم، وهذا ما عبر عنه «لوي ألتوسير»، فكلاهما يحتاج الآخر ويساهم في تطوره، لذلك يقول وايتهد : "هناك مشروعية للفلسفة والعلم معا وفي وسع كل منهما أن يعين الآخر".

 

21. سبتمبر 2020 - 21:12

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا