هو العلامة محمد يحي (لفقيه) بن محمد المختار بن الطالب عبد الله النفاع بن الطالب بن أحمد حاج الدا ودي نسبا الولاتي موطنا أحد القامات العلمية السامقة في بلاد شنقيط والعالم الإسلامي ككل .
ولد 1259 م تعد حياته رحمه الله مثالا صادقا علي وفاء العالم برسالته نحو محيطه وواقعه ا لإ جتماعي تدريسا وإرشادا وإفتاء وإصلاحا بين الناس , وقد بدت عليه علامات علو الهمة والحرص علي عدم تضييع الوقت وتبقي مقولته الشهيرة " إن ضوء النهار أعز من أن يضيع في غير المطالعة " خير دليل علي ذلك.
ولقد أثمر نبوغه واهتماماته بالتصنيف منذ سن مبكرة تراثا ضخما في مختلف المعارف الإسلامية .وقد بدأ هذا التأليف في السابعة عشر من عمره حيث نظم معاني الحروف من كتاب مغني اللبيب وشرح ألفية سيوطي في الثامنة عشر وشرح مراقي السعود في الخامسة والعشرون ووصلت مؤلفاته مائة عشرة كتابا وقد أشار إلي ذلك ابنه العلامة محمد الحسن في أبيات ما زالت منقوشة علي قبره حيث يقول:
هذا ضريح من به .........علم الشريعة انتشر فقها ومنقولا
ومعقولا كتابا وأثر ألف في حياته ...........مائة سفر وعشر وزار قبرالمصطفي
والبيت حج وأعتمر قاضي القضاة كلهم ....... من بالعدالة أشتهر محمد يحي رضي
......... الله عنه وغفر
فصنف في التفسير وعلوم القرآن , وعلوم الحديث فقها واصطلاحا واختصارا . والفقه المالكي وأصوله واصطلاحاته وقواعده والنحو والصرف والبيان نظما وشرحا , كماترك وفير الأجوبة والفتاوي والنوازل المتنوعة في الزكاة ,والأحباس والمعاملات والجنايات والأعراف , والأوراق البنكية وغيرها ومن هنا تبرز مظاهر التجديد لدي الشيخ في زمن يسوده التقليد والتعصب,حيث يعتبر هذا التجديد من أهم سماته رضي الله عنه عن غيره من علماء عصره . توجه رحمه الله إلي البلاد المقدسة سنة 1311 هجرية وكانت رحلة حافلة بالعطائات العلمية الزاخرة والمناظرات مر خلا لها في ذهابه وإيابه بالمغرب , وتونس , ومصر .
توقف الشيخ أولا في الرباط وألتقي بسلطانها الذي أكرمه وأحسن وفادته , وأثناء تلك الإقامة أخذ عنه العلماء علم البيان من تلخيص القزويني وبعض علم أصول الفقه , كما درسوا عليه تأليفا يسميه "منبع الحق والتقي الهادي إلي سنة النبي المنتقي " وغيره من مؤلفاته الأخري في المدينة المنورة .
ولما ألقي الشيخ عصي الترحال بالديار المقدسة لآداء فريضة الحج جلس في حلقة التدريس في المدينة المنورة ودرس الناس فيها موطأ الإمام مالك , وعقود الجمان للسيوطي في علم البيان . مر الشيخ خلا ل رحلته بالإسكندرية وناقش بعض علمائها في مختلف الفنون وأخذ عنه بعض أولئك العلماء, ومن بينهم العالم حسن شحاته الذي أجازه اجازة شاملة .
كما التقي في تونس بكثير من العلماء الذين درسوا عليه علوم الحديث وأجاز عددا منهم في وطنه . واستمرت رحلته العلمية إلي الحج سبع سنوات , وكان علماء ولاتة لحظة خروج الولاتي في رحلته هذه شعروا بالفراغ الذي خلفه غياب علم كبير من أعلام المنطقة ويظهر ذلك جليا في هذه الأبيات للعلامة محمد المختار ولد أنباله حيث يقول :
لئن غاب عن والات يحي فإنها ......تغيب عنها نورها وشبابها
وغيب عنها نحوها وبيانها .....وغيب عنها فقهها وصوابها.
وفي بلاد سنقيط أخذ عنه الكثيرون من كبار علمائها الأجلاء من أبرزهم محمد بن أحمد الصغير التيشيتي , وكذلك العلامة محمد المختار بن أنباله ومن ولاتة أخذ عنه عدد آخر من العلماء من أبرزهم كذلك المرواني بن أحمادو. كان رحمه الله عابدا مداوما علي تلاوة القرآن لاينام من الليل إلا قليلا قوالا للحق يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر , ولما ولي القضاء اشترط علي الذين ولوه أن ينفذوا جميع الأحكام التي يحكم بها ولوكان الحكم قتلا وكان له ذلك .توفي رحمه الله تعالي بمدينة ولاتة سنة 1330 هجرية رثاه بعض علماء تونس مثل السنوسي الذي يقول في مرثيته له :
مضي خلف الأبرار والسيد الحبر...... فصدر العلي من قبله
بعده صفر هو الحبر عند الدرس تطغي علوم.......عليه وفي المحراب يعرفه
الذكر هو العالم النحرير شمس زمانه..........هو العابد الأواب والشفع الوتر
وقد كان السبق لأشقائنا في المغرب عند إحياهم لذكري مئويته الهجرية بتنظيم ندوة علمية للتعريف بتراث الولاتي ومكانته في تاريخ الفقه المالكي .
وبهذه المناسبة ألقي عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء قصيدة رائعة نكتفي ببعض أبياتها:
فلوا أن المآثر ناطقات ...... لأبدين الحقيقة مفصحات وتشهد أن يحي سوف تحي.......معالمه الجليلة مشرقات فرحلته تمثل في مباني ..........محاورها القطوف الدانيات قرأت سطورها فوجدت فيها........معاني كالجواهر عاليات
كما أ شرف مركز الدراسات والبحوث الولاتية في انواكشوط خلال نهاية الأسبوع الماضي علي انطلاق ندوة علمية مماثلة لإحياء تراث الولاتي دامت ثلاثة أيام متواصلة حضرها لفيف من العلماء والمثقفين والباحثين من موريتانيا ومن دول شقيقة وصديقة , وقد أشبع المحاضرون الموضوع نقاشا ت نفضت الغبارعن هذا التراث الزاخر بشتى العلوم والمعارف الدينية .
ولقد صدق أحد طلاب محمد المختار وهو سيد أحمد بن الداه العلوي حين قال :
أملتقط السيادة ما جناها ......... من الكرماء قبلك من رءاها
ومكتسب الشمائل عن جدود......كرام ليس منهم من جفاها
فأكسبك التأدب حسن طبع.......وأكسبك العلوم من اجتباها
أبوك الناس كل الناس طرا......تقصر دون غايته مداها
له علماء مصر وأهل فا س.....مهابة علمه خلعت لواها
وجاء الحوض واكتسب المعالي.......وأيقظ للضلالة من كراها
وبيتك في ولاتة خير بيت...........وقد رفع البيوت من ابتناها
وهذا ما شهدت به عليكم ...........ولو خان الشهادة من دراها
رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته وأرحم اللهم أبناءه العلماء الذين كانوا خير خلف لخير سلف وأخص بالذكر العلامة محمد الحسن والعلامة محمد المختارو بارك في عقبهم وأبناء عمومتهم واجعل في ذريتهم العلم والصلاح . فقد مثل رضي الله عنه وأرضاه شنقيط أحسن تمثيل , ونشر العلم حيثما حل وخلف للأمة مجدا تعتزبه وكتب لنفسه عمرا طويلا من الذكر الحسن والثناء والدعاء.