منذ فجر التاريخ والصحاري تتحرك في هذا الركن القصي جولانا، لا شيء ينغص تحركها الجاف الجافي المستبد العاتي غير سحٍّ من الرذاذ تزجيه الشمالُ ليذوب جامدُ برده في جو بلاد الملثمين الساخن، أو عواصف استوائية تتحدى جفاف المناخ مستعينة بالزمان ضد المكان، لتوصل الهبات الإلهية من كل غادية وسارٍ مدجن في عشيات متجاوب إرزامها، ليتحول المكان في كثير منه مروجا وأريجا وجداول تدفعها قوة الجبال متدفقة فياضة لتتحد في وادي صنهاجة البهيج بسهوله الخصيبة ودلتاه اللطيف الساجي الوادع في منكب المنكب .
ثم ما تلبث رياح العطش "إريفي" أن تطلق فورة غضبها الجافة الجارفة فيهيج الغطاء الأخضر الجميل ليستحيل مصفرا ثم يكون حطامَ هشيمٍ تذروه الرياح، مفسرا آيات التنزيل بالعيان لا الخبر .
ثم تتوالى الدورات الزمنية التي ربما انكسر روتينها حقبا بفترات خصيبة تتحدى التصحر، ثم لا يلبث التصحر أن ينبري متسلقا رؤس الجبال ومنساحا في السهول والمهاد والوهاد، فهو لا يريد للماء أن يكون أرق منه ولا ألطف، ولو أن الماء علويا والحصى سفليا .
عبر هذا الزمان الحافل والمكان الماثل وعلى أديم هذه الربوع اختلطت الشعوب وتمازجت الأعراق فاستحال العرب والزنوج والفرس واليهود والرومان بربرا، والبربر عربا وزنوجا على نحو يعجز التاريخ عن النطق به أحرى تأكيده، إنما لعلم الجينات أن يعلن الحقائق فيه حين يكتب لها الظهور بعد حين، فلا تتعبنكم ولا تخدعنكم العنصريات العرقية والجهوية سكان المنكب، فقد امتزج الإنسان منذ القدم، وتبودل المكان تحت سلطة الترحال المرقوم .
لتبقى آثار أكوام الخزف "خندندير" المنتشرة في كل بقاع الصحراء شواهد ذات معنى، فتظهر أطلال الأخصاص من عمق تيرس وسفوح آدرار وتكانت والحوض إلى غابات دلتا نهر صنهاجة الموريتاني السنغالي في التفافها الذي حجبت كثافته الحقائق، أو قد تكون التهمتها وحوش تلك الفترات الخصيبة ربما، الله أعلم..
في هذا المجال جال رجال هذه الأرض يتوسعون جولانا وصولانا زرافات ووحدانا، فشهد منكب المنكب في التاريخ الأخير رباط ابن ياسين، إذ اهتز هواء الدلتا القديم حيث الرباط بذبذبات تطابق إلى حد كبير الذبذبات التي حركت أول مرة أثير هواء أرض الحجاز وجزيرة العرب .
إن تلك الذبذبات المرتلة حيث يتحرك بها جو سماء فإن أرضها على موعد مع تحرك جديد تكتسي منه الأرض نورا شذاه يملأ الخافقين .
لتستفيق سهول الأندلس في وسط إسبانية بعد سبات عميق وهبوط سحيق .
ثم لم يلبث الزمن أن دار دورته لتستك الآذان وتصطك الأسنان تحت قعقعة السلاح المفزع الظالم الخاطئ الكاذب؛ إذ ظهر هذه المرة يترجم سيبة لا إسلاما ولا سلاما ولا نظاما؛ لتطحن رحاه ألوف البشر نهبا وسلبا وهوانا وتعذيبا واسترقاقا واستعبادا .
ثم يبدأ الترحم على عهود المرابطين الفاتحين الأولين إذ يحتكمون لشرع حكيم، ويخضعون لنهج قويم، تنزيلا من رب رحيم .
لكن ذلك الترحم لم يُجدِ شيئا ذا بال، ولم يخرج الناس من ردغة السيبة والاستعباد ..
ثم كان أن استنجد حكماء الأرض في سابقة اجتهادية جريئة، لكنها محكمة المدرك، راسخة الاستدلال باحتلال في ثوب استعمار يقوده علج داهية من الإفرنج اسمه كبلاني، فأقام سلطته وسط الواحات، حتى سالت دماؤه تروي كدى تجكجة .
ثم يدور الزمن دورته لتقوم دولة (الاستقلال) فيكتظ شاطئ نواكشوط بأنواع الساكنة من كل فج عميق .
لم تعد سهول آفطوط نواكشوط حكرا على انتجاع أحياء تندغة الساحل وركاكنة الدلتا وانوامغار، لقد وجد الصينيون واليابانيون والهولنديون والقطريون والسنغاليون ومن قبل كل ذلك الفرنسيون مواطئ أقدام في أرض لم يخطر لأحد على بال أن يطئوها .
من "حاسي لمحار" انطلق نواكشوط من سهول آفطوط الساحلي، والذي أطلق عليه - كأغلب أسماء المكان والتضاريس- اسم صنهاجي مركب على الأصح من "انو" التي تعني حرفيا "ذو" وعرفيا "حاسي"، واكشط التي تعني المحار، هكذا أطلقت عليه الساكنة انواكشوط منذ القدم وربما أطلقوا عليه بأخرة حاسي المحار، وقد كان هذا الحاسي كأحساء آفطوط تتأثر مياهه بنسب هطول الأمطار عذوبة وملوحة، وكان الموقع نقطة نزول للقوافل منذ أمد بعيد، فقد ذكر من كتب من الرحالة ذلك، في عام 1860م ذكر القائد الفرنسي فينسان المكان، ولاحقا تركز اهتمام السلطات الاستعمارية عليه، ومما زاد الاهتمام به تلاقي الطرق القادمة من الشرق والجنوب والشمال فيه، وتجلى هذا التلاقي في استحداث أسواق موسمية في موقع لكصر على التلال والسهل المسامت لموقع "انواكشوط (حاسي لمحار)" إلى الشمال الشرقي غير بعيد، كانت سوق لكصر معرضا لمنتجات متعددة قادمة من الجنوب؛ حيث العاصمة اندر، ومنتجات الواحات ومنتجات الشاطئ.
وقد أخذ لكصر اسمه من القصر، وهو مصطلح شاع من مدن الصحراء في الجنوب الجزائري والمغربي؛ حيث يطلقون لكصر على مجموعة من البيوت تصل أحيانا مائة بيت يجمعها حصن واحد وداخلها زقاق ضيقة، انتقل المصطلح إلى الدارجة الحسانية وتم توسيع دلالته على مطلق التجمع القروي المستقر، وفي بداية تخطيط العاصمة بقي لكصر كما هو أقصى المدينة الجديدة التي أطلق عليها محليا اسم فرنسي هو Capital أي العاصمة في مقابل القرية القديمة (لكصر) وكان من كلمة الشيخ الإمام بداه البوصيري التندغي رحمه الله تعالى في ستينات القرن الماضي بمناسبة افتتاح جامع ابن عباس أن حمد الله تعالى أن موقع المسجد جاء وسطا بين القريتين، وهما القرية القديمة لكصر والمدينة الجديدة كابيتال.
بنيت كابيتال على موقع نواكشوط (حاسي لمحار) تحديدا، وتم اختيار تلك السهول والتلال الخفيفة لتأسيس اولى المنشآت العمرانية ذات الطابقين لتكون منها مباني الوزارات وإداراتها، وقد بنيت بناء محكما؛ إذ لا زالت الوزرات إلى اليوم تتخذ منها مقراتها (وزارة التهذيب، وزارة الصحة..) وقد تم هدم بعضها لصالح المباني الجديدة.
تم التخطيط المدني والتأسيس العمراني بشكل جيد، فرغم محدودية الإمكانات لم تكن المدينة بحاجة لأي شيء فقد وصلت بالطرق وتم تأسيس صرف صحي بمواصفات ممتازة بقي صامدا - رغم إهمال الاحكام العسكرية - إلى آخر تسعينات القرن الماضي، وأعتقد أن تأسيسه الممتاز يجعله الآن لا زال قابلا لتوسيعه إذا تم إصلاحه من جديد.
استولت فرنسا على آخر قطعة استعمار لها واسعة مترامية الأطراف هي التي تسمى اليوم السفارة الفرنسية، حذر الفرنسيون من امتداد العمران إلى ما وراء مركز الاستطباب الوطني المعروف شعبيا ب"الطب لكبير" ، لكن أحكام الخلاص العسكري بعدالتها وديمقراطيتها خلصت إلى تلال المحيط بناء للإقطاعيات وتدميرا للبيئة الشاطئية حد الإنذار بخطر تدفق أمواج المحيط على العاصمة حسب دراسات متعددة في المجال.
واليوم هي ذي مدينة نواكشوط تحتاج إرادة سلطات حازمة حاسمة تجعل للاستقرار المدني والاستمرار العمراني معنى تتغنى به الأجيال الوطنية، ليكون بناء مدينة شواطئ الصحراء الكبرى منضافا لأمجاد تأسيس أوائل الملثمين لمدينة مراكش وانتشال الأندلس من عربدة ألفونسو، وليعلم الأبناء أنهم انحدروا من رجال وطن مجيد، فيصلوا الطريف بالتليد، فأي قادة الجمهورية الإسلامية الموريتانية سيسجل له الواقع والتاريخ هذا الإنجاز؟؟