الإعلان عن استحداث "جائزة رئيس الجمهورية لحفظ وفهم المتون المحظرية" لا شك أنه خبر سارّ لمعظم الموريتانيين، وبشكل خاص لطلاب المحظرة الذين لا يزالون صامدين، يحنون ظهورهم على ألواحهم بين يدي شيوخ زهدوا في الدنيا وطلقوها، ونذروا أنفسهم لبث العلم، مرابطين في ساحات الوغى، وأي وغى!، حتى لا يرتفع العلم من الصدور في زمن أصبحت فيه البشرية تعتمد في تخزين المعلومة على الذاكرة الرقمية التي تتطور بشكل هائل حتى انتقلت من حيز الشرائح الرقمية إلى حيز الحمض النووي الذي تجري اليوم بحوث متقدمة من أجل جعله وسيلة دائمة لتخزين المعلومات، وفي خضم هذه الثورة التقنية الهائلة -ومع نظريات التعليم الحديثة- قل الاعتماد على الذاكرة البشرية، فضعفت، وضعفت معها ملكة الفهم، لأن الفهم يتطور عن طريق استعادة المعلومات المخزنة في الذاكرة والتفكير فيها، والمقارنة بين مختلف المعلومات واستخلاص النتائج منها، وعندما تكون الذاكرة فارغة فلن ينشأ فهم، ولن يكون هناك عقل ولا حكمة، ويظل الشخص بسيطا مسطحا ليس له طموح خارج حدود التجربة الحسية المرتبطة باللحظة الحاضرة، كما هي حال معظم سكان المعمورة اليوم.
شكلت المحظرة الشنقيطية ظاهرة ثقافية واجتماعية فريدة، بمستوياتها المتعددة التي تبدأ من المرابطة أو المرابط في الحي الذي يدرس القرآن وأوليات الفقه إلى الفقيه ذي المحظرة المتوسطة والحافظ المقرئ صاحب المدرسة القرآنية إلى المحظرة الشاملة التي تدرس العلوم جميعا، فقد أشاعت الكتابة والقراءة وحفظ القرآن، جزءا أو كلا، ومعرفة الضروري من الدين بين أفراد المجتمع، وتبعا لذلك أشاعت الأخلاق الحميدة والتعاليم السمحة للدين بين الناس، فكان المجتمع الشنقيطي مجتمعا متعلما في عصور استشرت فيها الأمية والجهل في أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، كما أصبحت المحظرة عبر تاريخها الطويل مصدر فخر للموريتانيين لما قدمته من نوابغ في العلوم التقليدية، ورجال حفظوا العلم وبثوه في ربوع الوطن العربي والعالم الإسلامي، وتركوا إلى اليوم آثارا مشهودة، في الكتب وتاريخ العلوم اللغوية والشرعية.
في الدولة الموريتانية الحديثة لعبت الثقافة المحظرية بما نشرته من تعاليم الدين السمحة دورا بارزا، حيث حمتها من حركات التطرف والغلو التي انتشرت في كثير من الدول العربية في العقود الماضية، وأججت فيها نيران الفتنة التي لا تزال حرائقها تنتشر في كل الاتجاهات.
مع انفتاح موريتانيا على العالم بشكل مباشر في أواخر القرن الماضي، ومع انفتاح الفضاء الإعلامي العربي، كان سهلا على أبناء موريتانيا أن يلجوا إلى الوظائف التي تتطلب تخصصات في مجال اللغة والعلوم الشرعية مثل التدريس والصحافة والتدقيق اللغوي والقضاء وغيرها، وأن ينافسوا فيها بجدارة خريجي أعرق الجامعات العربية، وكانت خلفيتهم المحظرية المباشرة أو غير المباشرة هي التي فتحت لهم تلك الآفاق، وأصحب الموريتانيون من جديد معروفين بإتقانهم في تلك الفنون كما كان أسلافهم الشناقطة معروفين بذلك، واليوم تشكل العمالة المتخصصة في هذه المجالات أهم جزء من العمالة المخصصة من أبناء موريتانيا المهاجرين.
إن فهم المحظرة باعتبارها ظاهرة ثقافية اجتماعية ساهمت وتساهم في الحفاظ على الهوية والسلم الاجتماعي، وتكافح الأمية وتبث العلم بين الناس، وباعتبارها واجهة دبلوماسية لموريتانيا تعرف بها في الخارج، وتساهم في صناعة وجهها الحضاري وصناعة علاقاتها الحاضرة، وباعتبارها مصدرا اقتصاديا مهما، يمكن الاستثمار فيه بشكل أوسع، بما يدر على موريتانيا عملة صعبة، ويخفف من البطالة فيها، إن فهمها على هذا النمط يجعل من الضروري الحفاظ على نظامها ودعمه والسعي لتطويره بما يتلاءم ومتطلبات الحياة الحاضرة، دون المساس بروحه وأساسه الذي هو حفظ العلوم واستظهارها، ويمكن أيضا التفكير والبحث في نوع جديد من التعليم يدمج فيه التعليم المحظري مع التعليم الحديث، كي نحصل على أجدى ما في النظامين، ولقد شاهدنا في أواخر القرن الماضي طلاب المحظرة يحرقون مراحل التعليم، فيلجون مباشرة إلى الإعدادية عن طريق امتحان الشهادة الابتدائية، ولا يلبثون في الإعدادية أكثر من سنة يتقنون فيها مادتي الرياضيات والعلوم الطبيعية ثم تجدهم بعد ذلك في شعب الرياضيات والعلوم في الثانوية التي سيقضون فيها سنة أو سنتين على الأكثر، يختمونهما بتربعهم على رأس قوائم الباكلوريا، ليمنحوا إلى فرنسا أو ألمانيا أو غيرهما، وقد تجاوزوننا نحن أبناء المدارس الذين تحاتّت أثوابنا من طول الجلوس على مقاعد الدرس سنة بعد أخرى، مما يعني أن الحفظ ليس عائقا في وجه العلوم الحديثة، ولا يضعف ملكة التفكير بل يقويها ويعزز من عملها.
إن هذه الجائزة بادرة مهمة سوف يكون لها أثر بالغ في تحفيز طلاب المحظرة وشحذ همهم لمزيد من التحصيل، ومساعدة كثيرين منهم على المواصلة، وهي خطوة أولى في اتجاه ذلك الدعم والتطوير الضروريين للمحظرة، ونرجو أن تستتبع بخطوات أخرى.