لم يعد خافيا أن شعار الرحيل الذي رفعته المعارضة في مطلع هذا العام قد أصبح بحاجة إلى أن تتم إعادة صياغته من خلال البحث عن وسائل وأساليب نضالية جديدة قادرة على فرض رحيل "الجنرال"، بدلا من التمسك بالوسائل والأساليب القديمة والتي أثبتت أنها عاجزة عن فرض الرحيل.
لقد آن الأوان لابتداع لحن جديد لشعار الرحيل، وذلك لأن اللحن القديم للشعار لن يُطرب الجمهور في العام 2013، بل إن التمسك بشعار الرحيل، والإصرار على تقديمه بنفس اللحن القديم في صالة الحفلات المعهودة لذلك (ساحة ابن عباس) قد يؤدي بالكثير من جمهور المعارضة إلى ترك الصالة، وربما إلى هجرانها وإلى الأبد.
إن المقارنة بين حجم الحضور ومستوى تفاعله مع أغنية الرحيل بلحنها القديم في أول حفل يقام في ساحة ابن عباس مع الحفلات التي نُظمت بعد ذلك في نفس الساحة ليؤكد بأن مستوى الحضور ومستوى التفاعل في تراجع ملحوظ، وأن ذلك التراجع سيظل في تزايد كلما اقتربنا من موعد انتهاء مأمورية الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
ولذلك التراجع أسبابه العديدة، والتي يمكن أن أذكر منها:
أولا: لقد اتضح لكثير من جمهور المعارضة بأن المنسقية ليست لها إستراتيجية واضحة لفرض الرحيل، وكل ما في الأمر هو أن المعارضة قد قررت ـ وبشكل مرتجل ـ أن ترفع شعار الرحيل، وذلك في انتظار "شيء ما" يحصل، أو بيان ما يتلى ويؤدى بلحن عسكري قديم جديد . وفي انتظار ذلك، قررت المعارضة أن تستغل فترة الانتظار بتنظيم مسيرات ومهرجانات متباعدة تَحَمَّس لها الجمهور في البداية تحمسا شديدا، ولكنه بدأ يشعر بالملل عندما أن أيقن بأن الأمر لا يتعدى : دعوة لمسيرة، فمهرجان بساحة ابن عباس، فتبادل للخطب، فتفرق، فسبات، فموعد جديد ..وهكذا.
ثانيا: من الأسباب التي أدت إلى ذلك التراجع هو أن المعارضة لم ترفع شعار الرحيل إلا في وقت متأخر جدا، وبعد أن ظهر للكثيرين حجم التحديات والصعوبات التي تواجه الثورات بعد إسقاط الأنظمة، فما يجري الآن في تونس، وفي مصر، وفي ليبيا قد أثر سلبا على تحمس البعض لرفع شعار الرحيل، خاصة لدى العامة من الناس.
لقد كان الوقت المناسب لرفع شعار الرحيل هو ذلك الوقت الذي ظهر فيه حراك شباب 25 فبراير، والذي تجاوب معه في البداية الكثير من الشباب، ولكن أحزاب المعارضة خذلت حينها الشباب المنادي بالتغيير، على العكس مما حصل في تونس وفي مصر حيث سارعت أحزاب المعارضة هناك إلى الالتحاق وفي وقت مبكر بالشباب في الميادين، وشاركت بفعالية في المسيرات والحشود التي تم تنظيمها في كل من تونس ومصر.
فأحزاب المعارضة عندنا لم تتحمس لحراك 25 فبراير 2011، ولم تدعمه بما يكفي، وتركته في مواجهة النظام لوحده، فحصل ما حصل.
ثالثا: علينا أن نعترف بأن موريتانيا تختلف فعلا عن تونس، وعن مصر، وعن ليبيا. ففي تونس وفي مصر وفي ليبيا لم يكن بالإمكان أن يحصل تغييرا إلا بالثورات، أما في موريتانيا فإن هناك احتمالا حتى ولو كان ضعيفا لحصول التغيير عن طريق صناديق الاقتراع (في رئاسيات 2007 كان من المحتمل جدا أن يحصل ذلك التغيير من خلال الانتخابات، ولكن المعارضة ـ ومن خلال بعض مكوناتها ـ وقفت ضد حصوله).
إن احتمال حدوث التغيير من خلال الانتخابات لا يزال قائما، حتى ولو كان ضعيفا، ووجود مثل هذا الاحتمال هو الذي جعل بعض الموريتانيين ممن ينشد التغيير فعلا لا يتحمس كثيرا لشعار الرحيل بلحنه القديم، لأنه يؤمن بوجود وسيلة أخرى لفرض ذلك التغيير، خصوصا بعد أن ظهر للجميع حجم التحديات الكبيرة التي لا زالت تقف عائقا أمام نجاح الثورة التونسية والمصرية والليبية.
لقد آن الأوان لتغيير لحن شعار الرحيل، وعلى المعارضة إن كانت تحترم ذائقة الجمهور أن تدرك بأنه ليس من الحس الفني أن تنظم المزيد من الحفلات في العام 2013 لتأدية أغنية الرحيل بلحنها القديم، خاصة وأنه لم يعد يفصلنا عن سنة الترحيل عبر صناديق الاقتراع إلا سنة واحدة.
وسيكون من العبثي، بل ومن السخيف جدا أن تظل المعارضة تصر على تأدية أغنية الرحيل بلحنها القديم في العام 2013، أي في العام الذي يفصلنا عن العام الذي ستجرى فيه الانتخابات الرئاسية، تلك الانتخابات التي قد تتيح للمعارضة فرض الرحيل إذا ما تمكنت من استغلال ما تبقى من وقت فاصل استغلالا ذكيا، وذلك من خلال وضع إستراتيجية نضالية جديدة قادرة على فرض الرحيل بطرق وبأساليب ديمقراطية، بدلا من انتظار انقلاب جديد، تقوده مجموعة من الضباط قد لا يختلف كثيرا عن كل الانقلابات التي سبقته.
إن على المعارضة أن تفتح نقاشا واسعا للبحث عن أساليب نضالية جديدة، تمكنها من الاحتفاظ بشعار الرحيل، ولكن من خلال أساليب ووسائل جديدة يتم تفصيلها على مقاس اللحن الجديد لشعار الترحيل، والذي يجب أن يعتمد على إيقاع صناديق الاقتراع.
وفي اعتقادي الشخصي فإنه على منسقية المعارضة أن توافق ـ وبشكل فوري ـ على مبادرة مسعود، وأن تعمل كل ما في وسعها من أجل أن يوافق النظام على المبادرة المذكورة، وأن تسقط كل الحجج التي يمكن أن يحتج بها النظام، أو يبرر من خلالها رفضه للمبادرة على أساس أن منسقية المعارضة لم تقبل بها.
فإن لم يوافق النظام على المبادرة، فعلى المنسقية حينها أن تعمل لكسب الرئيس مسعود إلى صفها، خاصة وأنه لن تكون لديه حجة ـ بعد قبول المعارضة لمبادرته ورفض النظام لها ـ للبقاء صامتا ومنعزلا في معتكفه السياسي.
وإن وافق النظام على المبادرة، ففي تلك الحالة على منسقية المعارضة أن تبدأ بوضع خطة محكمة لفرض الرحيل على إيقاع صناديق الاقتراع، ولن يتم ذلك إلا إذا اتفقت المعارضة على مرشح واحد من خارج قياداتها، بل ومن خارج أحزابها، وأن تبحث من الآن عن ذلك المرشح الذي يجب أن يكون شخصية وطنية مستقلة ومعروفة بالكفاءة وبالاستقامة وقابلة للتسويق، حتى يكون بالإمكان أن يتسع الإجماع على ذلك المرشح حتى يشمل أحزابا قد لا تكون منخرطة الآن في المنسقية، وحتى يشمل كذلك أكبر قدر ممكن من الفاعلين في المجتمع المدني.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام، هو أن الفرص لن تكون كبيرة بالنسبة للمرشح عزيز في أي انتخابات رئاسية قادمة، وذلك لأن شعارات المعارضة التي نجح من خلال رفعها في الانتخابات الماضية (الحرب على الفساد، تجديد الطبقة السياسية، القضاء على الفقر) لن يكون بإمكانه أن يرفعها في الانتخابات القادمة، وحتى ولو رفعها فإنها لن تجذب إليه الداعمين كما جذبتهم في الانتخابات الرئاسية الماضية. كما أن المترشح عزيز لن يكون قادرا على جذب شخصيات وازنة وذلك بعد أن أثبت بأنه مرشح غير وفي لداعميه، فأكبر داعميه في الانتخابات الماضية أصبح اليوم من معارضيه، وذلك بالتأكيد سيجعل كل الشخصيات الوازنة تفكر كثيرا من قبل أن تقرر دعمه في أي انتخابات قادمة. ثم إن ضعف أداء الرئيس عزيز خلال مأموريته الحالية سيكون ضده في أي انتخابات تنظم مستقبلا.
وعلى المعارضة أيضا أن تفتح جبهة موسعة من حولها، وأن تعمل تلك الجبهة من أجل الفوز أيضا بالأغلبية البرلمانية، وبالتالي برئاسة البرلمان في أي انتخابات تشريعية قادمة.
ولن يحصل ذلك إلا إذا اتفقت أحزاب المعارضة بشكل واضح وصريح على أن يدعم بعضها بعضا في كل دائرة يتمكن فيها أحد مرشحي المعارضة من الوصول إلى الشوط الثاني مع منافس من الأغلبية. كما أنه على أحزاب المعارضة أن تدفع بشخصيات معروفة ومقبولة في دوائرها الانتخابية لضمان الفوز، حتى ولو كانت تلك الشخصيات مستقلة، وذلك بعد أن أصبح الترشح المستقل غير ممكن، وبعد أن أصبح النائب لا يحق له أن يترك الحزب الذي نجح باسمه، وهو ما كان يشكل عائقا حقيقيا لحصول أحزاب المعارضة على أغلبية في البرلمان.
إن أفضل عمل نضالي يمكن أن تقوم به المعارضة خلال العام 2013 لفرض الرحيل، هو العمل، ومن الآن، وبكل الوسائل النضالية المتاحة لفرض الشفافية في أي انتخابات قادمة، وعندما تُنظم مثل تلك الانتخابات الشفافة، فإن الرحيل حينها سيتحقق بأكثر الوسائل أمانا، وبأكثرها ديمقراطية أيضا.
تصبحون على رحيل لا يأتي بعد انقلاب...