سمعت فتوى لأحد كبار فقهاء موريتانيا الأجلاء في التلفزيون الوطني أجاز فيها للزوج أن يضرب زوجته وهو ما لا يمكن لأحد أن يستسيغه في القرن 21 وخاصة بعد أشهر قليلة من إقدام أب موريتاني على ذبح أبنائه الثلاثة.
إن هذه الفتاوى وما يضاهيها من فتاوى لا تراعي السياق التاريخي الذي ورد فيه النص الشرعي ابتداء، ولا تستصحب قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال قد تؤدي إلى مفاسد كبرى أعظمها ردة النساء والشباب المثقفين ثقافة عصرية عن الإسلام ذاته، وأقلها تسرب الشك إلى قلوبهم، فضلا عن وضع حواجز فكرية تمنع غير المسلمين من اعتناق الإسلام.
وسوف أقوم بتفنيد هذه الفتوى بما يكشف قصور المنهج العلمي الذي يتبعه كثير من الفقهاء التقليدين الذين يعتمدون على فهم دلالات النص اللغوية بعيدا عن السياق التاريخي الذي يحدد ملابسات النص، وفلسفة التشريع الإسلامي ومقاصد الشرع التي هي المحور الذي تدور عليه الأحكام الشرعية وجودا وعدما، نتيجة كون كثير منهم تشكلت عقولهم في بيئة ثقافة نمطية قائمة على توظيف سيكولوجية الطفل المجبول على تقبل كلام من هم أكبر منه سنا من غير نقد أو اعتراض، وتعلموا الأحكام الشرعية بأسلوب التلقين و"الوثوقية".
وفي ما يلي بيان خطأ هذه الفتوى وما يضاهيها من الفتاوى - في مجال الرق والسياسة الشرعية - التي لا تراعي فلسفة التشريع الإسلامي ومنهج القرآن الكريم في علاج مشاكل المجتمع .
لقد بنى الإسلام أحكامه الشرعية في مجال المعاملات على مستويين :
المستوى الأول: قيم مطلقة وقواعد كلية لا تتغير بتغير الزمان والمكان والحال؛ وهي التي تمثل المرجعية التشريعية الموجهة للأحكام الفرعية الجزئية والحاكمة عليها، وهي الجوهر الذي يعطي للشريعة مرونتها وتميزها وقابليتها للديمومة والاستمرار. وقد جعل الإسلام هذه القيم المطلقة هي الأساس لبناء فلسفته التشريعية ومقاصده الشرعية التي يهدف إلى تحقيقها في كل زمان ومكان انطلاقا من أحكامه الجزئية الفرعية. وهذا ما يتجلى في جميع أحكام المعاملات.
المستوى الثاني: تحويل تلك القيم المطلقة والقواعد الكلية إلى واقع عملي، في صورة أحكام فرعية جزئية تنزلت في سياق تاريخي معين وواقع ثقافي واقتصادي واجتماعي محدد من أجل إصلاحه وتغييره وفق فلسفة التشريع القائمة على التدرج والحكمة وتغيير ما بالأنفس أولا.
وعندما نطبق هذا المنهج في مجال أحكام الأسرة نجد :
1. أن الإسلام أرسى علاقات الأسرة على قيم مطلقة وقواعد كلية قائمة على تحقيق العدل، وتحريم الظلم، وإرساء مبدأ المساواة بين الرجل وبين المرأة في أصل الخلق، وفي الكرامة الإنسانية، وفي المساواة أمام خطاب التكليف الشرعي، وفي وجوب بناء العلاقة الزوجية على المعاشرة بالمعروف، وقاعدة أن الزواج سكن للزوجين يثمر مودة وتحريم الظلم. فهذه القيم المطلقة والقواعد الكلية هي الحاكمة على الأحكام الجزئية في مجال العلاقة بين الزوجين وهي الموجهة لها في كل زمان ومكان.
2. شرع الإسلام أحكاما جزئية تفصيلية في مجال الأسرة في العصر النبوي حيث كان المجتمع يحكمه سياق تاريخي وثقافي يمتاز بنظام أبوي صارم ، وتقاليد قبلية راسخة، وكان المجتمع ينظر إلى المرأة نظرة احتقار حتى إنها كانت تؤد حية خشية العار، وإذا مات عنها زوجها يرثها أحد أقاربها كما يورث سقط المتاع، فيتزوجها أو يزوجها من شاء.
وكان من أسباب هذه النظرة اعتبار صفات الرجولة هي معيار الكمال الإنساني، وبما أن المرأة لم تكن قادرة على القيام بالأعمال التي كان يقوم بها الرجل في ذلك الوقت من كسب الثروة وتنميتها، وأخذ الثأر ورد العدوان وشن الغارات فقد اعتبرت ناقصة، حيث كان العمل يعتمد على قوة العضلات التي هي أساس مفهوم الرجولة عندهم، ولم يكن يعتمد على المعرفة والخبرة كما هو الحالة في العصر الحديث.
وهذا ما جعل الإسلام يشرع أحكاما جزئية في مجال العلاقات الأسرية تراعي هذه المعطيات الواقعية بغية إصلاحها تدريجيا على ضوء القيم الإسلامية الموجه لها تحقيقا للعدل الذي من أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب.
كما هو الحال في:
- قضية الرق
- ومشكل تداول السلطة
من هنا فقد أجاز الإسلام على سبيل الاستثناء من القيم المطلقة والقواعد العامة في ذلك المجتمع الزراعي الأبوي الذي كان يعتبر الزوجة بمثابة الأمة ويجيز للزوج ضربها لأتفه الأسباب تأديب الزوجة في حالة واحدة فقط يسميها القرآن الكريم "النشوز" ويسميها الحديث النبوي الشريف " إدخال بيته من يكره دخوله" إن غلب على ظن الزوج إفادة الضرب بعد فشل جميع محاولات إعادتها إلى رشدها بالحوار، أو بالهجر في المضجع، مما يدل على ان الضرب ليس ردة فعل يقوم بها رجل هائج في حال فورة غضب عارم كما هو الواقع في حالات ضرب الزوجة قديما وحديثا، بل هي نهاية عمل إصلاحي متدرج يبدأ بعملية فكرية ثم يتدرج إلى خطوة نفسية قبل أن يصل إلى الضرب مما يعني تعليق ضرب الزوجة بشروط يصعب تحققها في الواقع العملي تمهيدا لإلغائه من ثقافة المجتمع نهائيا؛ لأن الإسلام عندما يحرم على الزوج الذي تعود ضرب زوجته أن يضربها قبل فشل الخطوتين المبينتين في الآية الكريمة لا بد أن يهدأ غضبه ولا يصل إلى الضرب أبدا. وبهذا يختفي ضرب النساء من المجتمع المسلم نهائيا.
ثم إن هذا الحكم ورد في مجتمع زراعي يسوده نظام الأسرة الأبوية وسيطرة الرجل المطلقة على المرأة والطفل، وتحكمه العلاقات الأفقية التي لا تسبب ضغطا نفسيا للرجل، أما الآن فإن ضرب الزوجة في القرن 21 مستحيلة التأصيل الشرعي نظريا لاختلاف السياق التاريخي والثقافي ومستحيل التطبيق واقعيا لوجود ترسانة من القوانين الوطنية والدولية التي تحمي المرأة من تعسف الرجل.
إن الفتوى بجواز ضرب الزوجة في القرن 21 حيث تسود قيم المجتمع الصناعي الذي تقوم العلاقات فيه على أساس عمودي يتناقض من كل الوجوه مع المجتمع الزراعي خطء فادح وبيان ذلك في ما يلي:
- أنه لم يعد للقيم المرتبطة بالعضالات أي معنى في القرن 21 حيث صارت المعرفة هي الأساس وبإمكان مرأة واحدة أن تقتل ملايين الرجال بمجرد الضغط على زر قنبلة نووية
- إن مفهوم الأنوثة قد تغير عما كان عليه في العصر النبوي الشريف حيث إن المرأة اليوم تتساوى مع الرجل في التحصيل العلمي والخبرات المكتسبة، وفي القدرة على كسب الثروة وتنميتها والاطلاع بأعباء الأسرة و الأبناء .
- أن الرجل لم يعد سيدا مطلقا في البيت يحتكر المعرفة والثروة وينفق على الأسرة بل إن المرأة أصبحت تشاركه في ذلك كله.
- أن الزوج كان عنصرا مستقلا اقتصاديا عن المجتمع وغير تابع لأحد مما يبعد عنه الضغوط النفسية، أما الآن فقد اصبح تابعا اقتصاديا لرئيسه في المؤسسة يتلقى منه الأوامر يوميا لينفذها دون اختيار منه
هذا الواقع الجديد ينزع من الزوج كثيرا من الصفات التي كان يمتاز بها على الزوجة، ويضيف متغيرا جديدا يتمثل في ما يتعرض له الزوج من ضغط نفسي دائم في العمل، حيث يضطر لكبت مشاعره خوفا من فقدان الوظيفة أو تعرضه للعقوبة في حال التمرد على أوامر رئيسه في العمل فضلا عن الشعور بالضآلة والضعف المطلق أمام المؤسسة والدولة مما من شأنه أن يؤثر على نفسيته وسلوكه فضلا عن المشاكل الاقتصادية التي لا حصر لها فإذا انضاف إلى هذه المشاكل والضغوط الخلافات الزوجية داخل الأسرة وحاجات الأسرة الاستهلاكية التي لا قدرة للزوج على تلبيتها فإن الزوج قد يلجأ إلى ضرب زوجته أو أبنائه بدون سبب تعويضا عن النقص الذي يشعر به في المؤسسة، وقد يضربهم لأتفه الأسباب في محاولة منه لإثبات ذاته المسحوقة في الخارج وتحقيق الرضا عن نفسه المحطمة.
ومع كل هذا التفسير الأصولي المقاصدي فإنني أشير - لمن لا تقنعهم إلا النصوص أو أقوال العلماء المتقدمين - إلى وجود كثير من الأحاديث النبوية الصحيحة تستبشع ضرب النساء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضرب إحدى زوجاته قط مع أنهن كن يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم حتى الليل و ألجأنه إلى أن يعتزلهن شهرا" كما في الصحيحين مما يعني أن الضرب لا يلجأ إليه إلا من لا خلاق لهم.
وقد نقل ابن العربي في أحكام القرآن 1 /420 عن التابعي الجليل عطاء أن الزوج لا يضرب زوجته، وإن لم تطعه بأن رفضت أمره ونهيه، ولكن يغضب عليها، قال ابن العربي: "وهذا من فقه عطاء فإنه من فهمه للشريعة، ووقوفه على مظان الاجتهاد، علم أن الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة، ووقف على الكراهة من طرق أخرى، في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زمعة إني لأكره للرجل أن يضرب أمته عند غضبه، ولعله يضاجعها من يومه، وقوله صلى الله عليه وسلم اضربوا ولن يضرب خياركم فأباح وندب إلى الترك، وإن في الهجر لغاية الأدب"
فكيف لو عاش عطاء وابو بكر بن العربي إلى زماننا؟