النخبة أو الصفوة و المعنى يكاد يكون متطابقا في المفهوم العام المراد التعبير عنه بدور النخبة الأكثر تداولا في أدبيات الطبقة المثقفة.
و لإلقاء بعض الضوء على دور النخبة أو الصفوة فإن دورهما لا حدود له سواء أكان ذلك في المجال العلمي أو الثقافي أو في مجالات أخرى تتعلق باهتمامات الرأي العام المتعددة و المتشابكة و يبرز ذلك أكثر في المشهد السياسي و تأثيراته في مختلف مناحي الحياة العامة.
و إذا ما عدنا إلى الماضي مع بداية حركة النهضة في خمسينات و ستينات و سبعينات القرن الماضي فإننا نلاحظ الفروق الكبيرة التي كانت سائدة عند نشأة حركة النهضة الوطنية و الظروف التي نشأت فيها و الدور الذي كانت تقوم به في شتى المجالات، سواء تعلق الأمر بمحاربة الاستعمار الفرنسي أو العمل في إشاعة الفكر القومي و الذي لم يقتصر على محيطنا الوطني بل تجاوز مداه إلى محيطنا الإقليمي و القاري.
بل و تعداه إلى أفاق أوسع و أشمل من ذلك, إلى الربط بين النضال المقاوم للاستعمار في مختلف القارات، و بصفة خاصة القارة الإفريقية لما لها من ارتباطات تاريخية و ثقافية بوطننا، هذا بالإضافة إلى التداخل البشري الذي لا يفرق بين أبيض و أسود في مجال النضال الوطني أو العلاقات الاجتماعية بصفة عامة .
لقد استمرت النخبة الموريتانية آنذاك في حراك دائم، يرسم الخطط و يضع البرامج الهادفة في المراحل الأولى من أجل تخليص الوطن من هيمنة المستعمر.
إلى أن وصلنا إلى الاستقلال الوطني، مع بداية الستينات حيث شارك الشباب الموريتاني بمختلف توجهاته الفكرية و الاجتماعية في العمل الوطني، و كان شغله الشاغل هو بناء دولة مستقلة على أسس من الثوابت الوطنية الراسخة بغية إحداث تحولات نوعية في البناء الوطني.
إن دور النخبة كان محوريا و رائدا و مؤثرا و هادفا و موحدا لكل الاتجاهات السياسية بمختلف مذاهبها، كما كان بعيدا كل البعد عن التفكير في الحصول على أي مزايا من أي نوع سوى كانت مادية أو وظيفية أو غيرها.
لقد استمر الوضع على هذا النحو إلى أن تم تغير الحكم الوطني 1978 حيث تبدد دور النخبة ا لذي كان رائدا و مؤثرا تأثيرا فاعلا في الحياة العامة للدولة.
فقد كانت القرارات الثورية التي تم اتخاذها في المجال الاقتصادي و الثقافي و الاجتماعي ثمرة من ثمار النضال المتواصل بدون توقف و لا ملل طوال الفترة المذكورة آنفا
و عندما وقع الانقلاب العسكري على السلطة المدنية 1978 أحدث تغييرا جوهريا في مختلف أوساط النخبة، و من يومها و إلى حد الآن لم تتوازن الكفة بالرجوع إلى ما كان عليه دورها التاريخي.
و إذا ما القينا نظرة متأنية على الحالة التي تخيم على مختلف أوساط النخبة في الوقت الحاضر فإن أقل ما توصف به أنها تعمها حالة من السيولة الفكرية و الثقافية و السياسية، الأمر الذي جعلها بعيدة كل البعد عن المشاركة في صنع الاحداث و خلق مناخ سياسي يحرك المياه الراكدة في الحياة الوطنية.
لقد أصبح دور النخبة غائبا منذ اعتلى عرش السلطة حكاما غير مؤهلين لإدارة الشأن العام في بلد لا يزال يتلمس طريقه نحو مستقبل غير محدد المعالم.
إن دور النخبة الذي عرفه الرأي العام في الماضي أصابه الشلل و الإعياء و التفكك منذ فترة و تنازعته المغريات المادية حيث فقد الرأي العام الثقة شبه الكاملة في إمكانية قيامها بالدور المؤمل منها بالمشاركة في بناء وطن للجميع و من أجل الجميع، بعيدا كل البعد عن المغريات المادية الٱنية التي لا ينتج عنها إلا ضياع الحاضر و فقدان الأمل في مستقبل واعد.
و مع ذلك فإن البعض لا يزال يحدوه الأمل في الدور المرتقب من النخب الجديدة الناهضة في الحياة السياسية، و المشاركة في بعض المجالات المؤثرة في تغيير الأمور إلى الأفضل، و يعزى ذلك إلى الأجيال الجديدة لم تلوثها المطامع المادية الضيقة، و الرغبات المبكرة في اعتلاء المناصب الإدارية ذات العائد المادي الكبير.
لقد كان الرأي العام يأمل و يتمنى أن تلملم النخب المخضرمة أوضاعها الفكرية و السياسية من أجل المشاركة في بناء وطن مزدهر تعمه العدالة و المساواة بين أبنائه لا فرق بين رجاله و نسائه في الاعتبارات الاجتماعية أو الثقافية أو العلمية.
و بهذا تصبح النخبة بجميع مكوناتها مشاركا فعالا في مختلف مجالات الحياة العامة و مساعدا للسلطة الوطنية في توجيه الٱمور إلى ما هو أصلح و أنجع في محاربة الفساد المالي و الإداري و تراكماته التاريخية التي ما زالت لم يعثر لها على وسيلة لمواجهتها و استئصالها بصورة فعالة و جذرية.
و في هذا الإطار لا بد من الإشادة بالأصوات المعارضة للفساد و العبث بمقدرات الشعب دون رقيب و لا عتيد.
و الأصوات المشار إليها معروفة و لا حاجة لذكر أسماء أصحابها سوى أنهم أساسا من المعارضة الوطنية المعروفة بمواقفها الراسخة.
عبد الرحيم مسكة
وزير مفوض سابقا في الجامعة العربية
01 ـ 10 ـ 2020