إذا كان للتاريخ عدة منهجيات يكتب من خلالها حسب تصنيف مدارس التاريخ الكبرى المشهورة فإن التاريخ الموريتاني لحد الساعة قد كتب بمنهجية خاصة أقرب ماتكون للمنهجية "للمختلطة" إذ تأخذ من كل فن بطرف ومن كل مدرسة بأسلوب!
فإذا عدنا لهينري ابيرين ولانكلوا وسينوبوس ونظرنا في منهجية إخضاع التأريخ للوثيقة المقصودة والمكتوبة الذي بنيا عليه مدرستهما فإننا سنجد إبن الأمين الشنقيطي يحفر لنا في تاريخ الفقهاء ومناقبهم وجهاتهم ومسلكياتهم من خلال وثائقهم المدونة شعرا ونثرا وعلى خطاه سار إبن حامدن فحاول في تاريخيه السياسي والثقافي أن يتتبع وثائق الإفتاء والبيوع والمراسلات والسجالات ليكتب ما استطاع من تاريخ البلد وفقا للوثيقة ومنهجيتها، والأمر ينطبق على هيرينشو وتيودور مونو وفيرني وغيرهم من الأثريين الذين رسموا منهج كتابة التاريخ بناءً على الآثار العينية فشاركهم أكاديميون موريتانيون في التنقيب والكتابة أمثال عبد الودود ولد الشيخ وبوبة محمد نافع ومحمد مولود ولد أيده وغيرهم ممن كتبوا أجزاء هامة من التاريخ الأثري ونفضوا الغبار عن مدن تاريخية وأثرية سواءا ما اندثر منها أو لازال قائما إضافة لبعض المستحثات والسكك النقدية سوف تثري المتحف الوطني والمكتبات وتساعد الطلاب على تقديم مادة تاريخية في عروضهم ورسائلهم الجامعية.
وإذا توجهنا لبروديل وزميله جاك لوكوف ومارك بلوك وروبير ماندورو لنلقي نظرة على منهجيتهم في الحوليات وشمول النظرة التاريخية لكل المخلفات والعقليات والثقافة والفن ونمط العيش والسكن والأساطير والمعتقدات والروايات والقصص فإننا سنجد كتب ولد السعد تتناول هذه الجوانب في شموليتها حين يحدثنا عن نظام الإمارة والمشيخة ومايتطلبه ذلك من الإستدلال بمتاع الإمارة ومواد تجارتها الأجنبية وأسلحتها وخيلها وخيامها وملابسها ،فضلا عن أنماطها السياسية وقضائها وفتاواها وصراعاتها وحروبها وتراتبيتها ووظائفها إلى ماستفضي إليه من أحوال وأشكال سياسية واجتماعية واقتصادية معاصرة، وسوف يحاول حماه الله السالم أن يتتبع شمولية الحوليات هذه في كتبه عن موريتانيا في الذاكرة العربية وموريتانيا الجمهورية المعاصرة وموريتانيا في العهد الوسيط، ولذلك فقد ضبط مع نظيره هذه المنهجية كتابيا في نظرنا.
وإذا عرجنا على شامبونو وكريتين في منهجيتهما الشفوية حول نقل أخبار دولة ناصر الدين ومملكة التكرور وجارتها الغانية وجارتهما المغربية العلوية فسنجد نظيرهم التأريخي يتجلى في العقل الجمعي الشامل لرواية التاريخ المحلي، فالتاريخ المحلي بالأساس هو تاريخ مرويات ولكل قبيلة تاريخها المروي ولكل أسرة تاريخها وسلسلتها وشجرتها ،ولكل مجموعة قومية أمجادها وخوارقها، وقد قال إبن خلدون بأن "التاريخ يستوي في فهمه السوقة والأغفال وفي نقله الملوك والأغيال" وبما أن مجتمعنا يعيش في الماضي لأن الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء فنحن نفضل استنساخ تجارب الماضي ونرى فيه كل الأنوار والأمجاد والفضائل إضطرارا، وربما هذه سمة عامة في المجتمعات العربية ومن في معناها من الأفارقة ومابين ذلك.
حتى إذا نظرنا في منهجية العرب القائمة على قوة السند وعن فلان عن علان وجدنا نمطا مماثلا في محاولات ولد الحاج ابراهيم وصاحب الحسوة، ليحيلنا ذلك إلى المنهجية الخلدونية التي تبني مادتها التأريخية على حال العمران البشري وطبائع عيشه فنجد بأن ددود في تاريخه الفكري والناني ولد الحسين في كلامه عن الملثمين قد حاولا إدراج تطور المجتمعات الصحراوية تاريخيا بناءً على تطورها اقتصاديا وعمرانيا فسياسيا.
ولم تختصر المنهجية الخاصة بكُتاب موريتانيا على منهج له نظير في المدارس التأريخية المذكورة وإنما تجاوزته إلى الأخذ من كل منهجية بطرف ،حيث نجد الكتاب الواحد يحوي في طياته النقل عن الوثائق في فصل منه وفي الفصل الموالي يعتمد منهجية الآثار وفي الفصل الآخر يسهب في منهجية الحوليات وموسوعيتها ليختتم فصوله بالقصص الشعبية والروايات، وهذا ما جعل المنهجية الأساسية هي منهجية مختلطة وليست مقيدة بنمط إحدى المدارس المعهودة.
ومع ذلك فإن تاريخ موريتانيا لم يكتب رغم حصول كل المنهجيات في صفحات ماكتب منه، فهو لم يكتب ودليل ذلك أن قوميات موريتانية بعينها لم تحظى في بعض الكتب بأكثر من خمسة أسطر على الأكثر!
رغم وجودها في كل مراحل ومفاصل التاريخ المحلي، وهو لم يكتب حيث لايوجد تاريخ موسوعي للبلد على غرار ماهو معروف في الشرق والغرب، وهو لم يكتب حيث حساسيات النقد والتمحيص حاضرة بقوة وكذا ارتباك الهوية الجنيالوجية والثقافية الإنتمائية الحديثة في عصر الدولة.
فهل يكتب التاريخ المحلي شاملا من جديد وفقا لمنهجيته المختلطة؟