تعليمنا بين الواقع والمأمول / زين العابدين محمد العباس 

تعطي الأمم الناضجة الواعية والمجتمعات المتحضرة الراقية أهمية كبرى وأولوية قصوى للتربية والتعليم، وذلك لمركزيتهما في ازدهار الشعوب وتهيئتها، إذ التعليم هو ركيزة التقدم وقاطرة التنمية وأساس بناء المجتمع المتحضر المنتج، وهو الذي يكفل لأي مجتمع المؤهلات الضرورية التي تمكنه من المساهمة بفعالية وإبداعية وإنتاجية في بناء التطور والتقدم الحضاري والنمو والازدهار الاجتماعي، فكل المجتمعات والدول التي قطعت خطوات كبرى في مجال التقدم والريادة لم تبني ريادتها إلا حينما توسلت بالتعليم واتخذته مطية لسفرها الطويل نحو الرقي والتقدم، فأولته أهمية في سياساتها العامة والخاصة، دعما وإصلاحا و تقويما و تمويلا وتطويرا. كما أن كل الشعوب التي تقبع في أتون التخلف والجهل والضعف والحرمان يعيش تعليمها عطبا كبيرا يعوقها بنيويا ويحول دون أن يبث في جسدها روح التألق والانبعاث.

واليوم إذ نتابع بقلق الوضعية التي صار إليها التعليم الموريتاني ندق والمجتمع الموريتاني برمته ناقوس الخطر الذي يهدد كيان الدولة والمجتمع منذ خمسة عقود من الزمن، التي عشنا فيها عشرات الخطوات المعطوبة في إصلاح إصلاحات التعليم لا إصلاح التعليم. فلم يعد من الضرورة بمكان أن يكون المرء متضلعا في نظم التربية والتعليم، أو خبيرا متمرسا بها، حتى يكون بمقدوره تكوين رأي خاص، أو استخلاص حقائق ثابتة حول ما صار إليه التعليم بموريتانيا الذي أصبح حقل تجارب بامتياز ومجال مراهنة فاشلة على نماذج مستقاة من سياقات مختلفة عن السياق الموريتاني المتفرد بثقافته وهويته. فالواقع أن مسار التعليم في موريتانيا منذ الاستقلال وإلى اللحظة لم يتوفق في استتباب منظومة تربوية تعليمية متكاملة الأضلع، متناسقة الصيرورة، مؤسسة في فلسفتها على مرجعية محددة، ومبنية على تصور منهجي خاضع لعمليات في التقييم بأفق الإصلاح و التقويم. فهو لم يتوفق إلا في تكرير نماذج مستوردة من تجارب تعيش فردانيتها الخاصة في النسق الأممي. وإنه ليظهر للمتتبع من خلال تمسك موريتانيا بهذه النماذج أنها تعيش أزمة بين تعليم يريدها أو بالأحرى تحلم به وتعليم يراد لها أو بالأحرى يفرض عليها. وبالتالي يصبح الحديث عن إصلاح التعليم بموريتانيا حديثا عن الاستقلال السياسي عن «حزب فرنسا» الضارب بجذوره في صميم بنى الدولة، والذي لازال يهيمن داخل موريتانيا بكوادر وأطر توجه المسار السياسي للمؤسسات. ولا شك أن هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل موريتانيا متمسكة باللغة الفرنسية في تدريس العلوم الحقة، رغم أن لغة العلوم والإنتاجات العلمية والتقنية هي اللغة الإنجليزية !!!.

إن ما راهنت عليه موريتانيا من إصلاحات معطوبة سواء كان ذلك بحسن نية أو سوء نية لم يوفق إلا في إعادة إنتاج الأمية والجهل في أعلى مراتبهما، ولم يوفق إلا في إفراز الفشل المدرسي والجامعي بكل تفرعاته وأشكاله، ولم يوفق إلا في دفع آلاف من أبناء هذا الوطن إلى سوق في البطالة واسع موسع.

وإن المناسبة هنا في الحديث عن هذا الوضع المزري الذي بلغه التعليم بموريتانيا لا تستدعيها هنا رغبتنا في الصراخ والعويل على أطلال تعليم صار إلى القاع على حين غفلة من أهله، ولا رغبة في تشريح منظومة عاطلة هز أركانها سيل من الفساد والريع تأكد بالمعطيات والإحصاءات والوقائع المعاشة، وهي دامغة بكل المقاييس، ولا يمكن أن يغض الطرف عنها إلا مكابر أو جاهل أو متملق أو صاحب مصلحة ذاتية، كما الحال مع من لازال يخرج إلينا بتصريحاته المهترئة، بأنه بصدد التصدي والإصلاح وأننا على أبواب قطف النتائج، ولكن هيهات هيهات !!!.

ومن زاوية أخرى يجب التأكيد على مسألة مهمة تتعلق بمركزية <<التفكير النقدي>> في المنظومة التربوية وغيابه في أبجديات تعليمنا الوطني، والذي تأباه جميع مؤسساتنا التعليمية للأسف أو بالأحرى تم تغييبه في السياسة التعليمية المتبعة في البلاد، التي ترفض التفكير والتحرير وتغلب التلقين والتدجين، وفي حقيقة الأمر ترفض الحياة، ترفض العلم الحقيقي، ترفض الطموح والعمل الجاد المثمر، ترفض أن يكون هناك جيل قوي غير تابع.

ولقد أبدع "المسيري" حين وضع حدًّا فاصلا "بين العقل الفوتوغرافي الغبي والعقل التوليدي الذكي"، وتعليمنا الراهن ينحو غالبا إلى سرد الحقائق مشتتة، وعرض الجزئيات، وتحفيظ التفاصيل، مغفلا الحقيقة والكليات والأسباب؛ أي أنه يتعامل مع "آلة تصوير"، و"مسجلة"، و"إم بي3" (MP3) ... ينتظر منها أن تعيد ما خزن فيها، لا مع عقلٍ له القدرة على أن يبدع ويولد ويأتي بالجديد ويخلق النموذج والمثال.

[تعليمنا يعتمد على "الشيء" و"المادة" و"التقنية" و"المعلومة"، أي أنه حريص على "صناعة" الإنسان الذي سينتج ويصنع ويقول "نعم" إذا اقتضى الأمر؛ وهو يدير ظهره "لله" و"للإنسان" و"للكون" و"للقيم" و"للفن" و"للأخلاق"...]

ولذا، فإن التعليم بهذا المدلول وبهذه الخلفية المادية البرجماتية، لا يمكنه أن يرتقي بالناس، ولا أن يجعلهم أفضل مما هم عليه، أو أكثر حرية، أو أكثر إنسانية ... أي أنه يعلمهم أن يكونوا "حيوانات اجتماعية"، وفق قاموس "داروين"، عُلّموا أن يكونوا قرودا متطوِّرة متحضرة، لا أناسا مسؤولين ..!!.

يقول المشتغلون في قطاع التعليم: [ماذا نفعل، هذا هو البرنامج، نحن مطالبون بإتمامه، وهذا هو المنتظر منا ؟] هذه عبارة، أو مكوك من العبارات مجتها الآذان، وصدئت منها القلوب، وتبلدت على إثرها الأحاسيس، وتغابت جراءها العقول والأفئدة؛ و لطالما شُهرت مثل "سيف خشبي متآكل" أمام كل محاولة للإصلاح، وكل مبادرة للتغيير، كأن "الضغط، والبرنامج، والمادة ... ومرادفاتها صارت هي الآمر الناهي، وتحولت إلى بعبع مخيف أو حتى إلى صنم يعبد".

والأزمة في نظري أن <<التفكير الناقد>> أهم عنصر نعوزه في المنظومة التعليمية؛ لأن لديه القدرة على زرع التفكير البناء في عقول الناشئة منذ الصغر وكان أهم مظهر على أننا نسير عكس التيار التعليمي العالمي الهادف، هو أننا نفتقد في برامجنا ومناهجنا خاصة، وأسلوبنا التعليمي عامة، إلى إرساء منهجية <<التفكير النقدي أو الناقد>>.

إن التفكير الناقد أهم عنصر نعوزه في المنظومة التعليمية، وليس إكمال البرامج الدراسية والحفظ والتلقين؛ لأن الأول لديه القدرة على زرع التفكير البناء في عقول الناشئة منذ الصغر، إذا ما تعود الإنسان عليه في تلك المرحلة الزمنية، فإنه سيكون دأبه دائما.

ولكن ما التفكير النقدي ؟

لقد حاول بعض الباحثين التنقيب عن أصول التفكير الناقد، فذهب إلى أن الفكر اليوناني ممثلا في سقراط [اتجه اتجاها عقليا، فربط النظر العقلي بالسلوك في إطار نقدي للواقع المعيش في تلك الفترة، وقد تواصلت حركة التفكير النقدي عبر التاريخ الفكري الإنساني، وهذا بدوره أدى إلى صياغة وجهات نظر فلسفية فكرية حول التفكير الناقد من قبل التربويين والفلاسفة وعلماء النفس، ووضعها في نسق معرفي وتربوي منطلقة في ذلك من القدرات العقلية للإنسان].

إلا أنه يمكن القول، إن التفكير النقدي - في التحليل الأخير - ليس شيئا أكثر من النظر في المقدمات وإصدار الحكم عليها بمقتضى قانون العقل، دون النظر للأحكام السابقة المتعارف عليها. [إنه - في تعريف لأحد الباحثين - عملية ذهنية يؤديها الإنسان عندما يطلب إليه الحكم على قضية أو مناقشة موضوع أو إجراء تقويم]. إنه الحكم على صحة رأي أو اعتقاد وفعاليته عن طريق تحليل المعلومات وفرزها واختبارها بهدف التمييز بين الأفكار الإيجابية والسلبية.

بما يعني أننا أمام أسلوب جديد من التفكير الذي يفضي إلى إنتاج العلم، وربما تصديره، وربما كان هذا هو سبب التطور الغربي الهائل في مجالات العلم النظري منها والتطبيقي كافة، وربما كان هذا أيضا السبب الرئيس في تدفق المعلومات التي نشهدها في عالمنا على المستويات كافة.

وإذا ما أردنا تعليما يكون ميزانا لنهضتنا، فلا بد من التغلب على كل ما هو تقليدي؛ فالعلم الآن لا يقاس بكمية الحفظ والاستذكار، ولكن التعليم يقاس بمدى الفهم والاستيعاب والابتكار في حل المشكلات، وهذا لن يكون متوفرا إلا في ظل تعليم ناقد بناء يقوم على التفكير النقدي.

إن التفكير الناقد يستطيع بكل سهولة أن يقضي على آفات منها:

[- عملية الحفظ والتلقين التي لا تنشئ إلا جيلا يقوم على فكرة السمع والطاعة في كل شيء، ولو كان خطأ.

- فكرة أن الأولين قاموا بكل شيء من أجلنا، بل من الأحرى أن نكون على يقين بأن الأولين قد تركوا لنا كل شيء، فإذا ساد هذا الانطباع نكون على بداية التفكير النقدي المنتج علميا وفكريا.

- فكرة انغلاق العقل على ما هو قديم، دون تمييز غثه من سمينه، وهي من الإشكاليات العتيقة في تاريخ تراثنا الفكري، إذ من الواجب علينا أن نغوص في أعماق هذا التراث، لأنها إحدى الإشكاليات التي توجه بسببها سهام النقد إلى هذا التراث الذي نعتقد أن نسبة الإيجابي فيه تفوق السلبي، ولكن لن تظهر قيمة هذا الإيجابي دون تنقيته من الأخير، واستبدال آخر إيجابي به].

ومن هنا، وجب الانتباه جيدا إلى أن التفكير النقدي نظرة تستغرق البعد المستقبلي، إذ لن يكون لهذا المستقبل دور، ما لم يكن قائما على أساس من التفكير الصحيح، أخصه التفكير الناقد.

والتفكير النقدي يجب أن يكون مرتبطا بمحاور العملية التعليمية، وهي: المنهج، المعلم، المناخ التعليمي، الطالب.

فالتفكير النقدي على مستوى المنهج الدراسي ليس على المستوى المأمول، بل لنا أن نقول إنه ليس له وجود أصلا، فالمنهج الدراسي يرسخ لشيء واحد الحفظ، ثم الحفظ، نعم هناك أمور أخرى لكنها ليس لها الصدارة في المنهج، فالتفكير والإبداع يتواريان خلف ظلال كثيفة من الحفظ والتلقين.

ومن ثم، فلا بد أن يكون المنهج الدراسي مشتملا على مواقف حياتية تنمي عند التلميذ التفكير الناقد، وتجعله في حاجة إليه دائما، وعليه فلا بد أن تكون عملية التقييم ذاتها تنمي لهذا المنهج حتى يصير ملكة لدى صاحبه، هذا فضلا عن أن الأنشطة التي يقدمها المنهج ليست على المستوى المأمول الذي يكوّن عند التلميذ ملكة التفكير الناقد.

إن المنهج الدراسي يجب أن يعمل على وضع التلميذ في مواقف حياتية تدفعه دفعا للتفكير الناقد، ومن هنا يجب أن تكون الموضوعات من تلك الموضوعات التي تدعو إلى التفكير، أو على الأقل تساعد عليه من خلال وضع الطالب على المحك مع المشكلة المطروحة، فيضع لها تصوره، ثم يشرع في إيجاد الحلول النقدية لها.

[كما أن طبيعة التقييم داخل المنهج الدراسي عليها عوار كبير، فهي لا تحفل إلا بالنادر الذي ينمي التفكير الناقد لدى التلميذ، فكلها أساليب تقييم إنشائية لا تقيس التفكير، وإنما تقيس القدرة على الاستذكار والحفظ، ليس إلا]، وهنا تكمن الخطورة، ذلك أننا بذلك ننشئ فردا لا يعرف إلا التقليد والمحاكاة. أما أن يبدع أو يبتكر، فذلك مستحيل في ظل هذا المنهج الذي يعتريه العديد من أوجه العور والنقص.

وهذا كله ذو دلالة واضحة على أن المنهج بصورته الحالية يعد مناقضة بالكلية للتفكير النقدي؛ فالتفكير النقدي تفكير بناء، أدواته إعمال الفكر وليس قتل الفكر بالحفظ والتلقين، ولنا أن نقول: إن من لا يستخدم التفكير الناقد إنما يرسم طريقا للفشل. أما من يخطط للتفكير النقدي، إنما يخطط للنجاح على كافة الأصعدة.

وإذا كان هذا هو حال المنهج من التفكير النقدي، فكيف يكون الحال فيما يتعلق بالمناخ التعليمي أو القائم بعملية التعليم، وهو المعلم، أو بمحور العملية التعليمية، وهو الطالب.

فضلا عن ذلك، فإن المعلم مقيد بهذا المنهج الذي لا يتيح له مجالا للإبداع أو التفكير النقدي، وإذا ما أبدع معلم في مجاله في قاعات الدرس، فإنما يعود ذلك إلى مجهود فردي منه؛ فضلا عن أننا نفتقد بالأساس إلى المعلم الذي يمتلك أدوات التفكير النقدي، ومن ثم فكيف وهو فاقد الشيء أن يجعل الطلاب يمتلكونه؛ فالخطورة الكبرى أن المعلم الذي نرجو أن ينتقل العلم على يديه إلى أفق أوسع من ذي قبل، فكيف يتسنى له ذلك، وهو يفقد أدنى الأدوات التي يستطيع من خلالها فعل ذلك ؟

إن المعلم في غالبية أوطاننا العربية مهضوم حقه، ليس على المستوى المادي فحسب، بل على المستوى التأهيلي والتنمية المستدامة، ونحن نتساءل كم مرة تم تأهيل المعلم تدريبيا على التفكير النقدي ؟ بل لنا أن نتساءل بكل وضوح: هل تم تأهيله عليه من الأساس، ولو لمرة واحدة ؟! الإجابة حتما بالنفي، ذلك لأننا لا نؤمن بالتفكير النقدي في مؤسساتنا التعليمية في التعليم قبل الجامعي، ولا التعليم ما بعد الجامعي.

ومن هنا، فنحن إذ نطلب من المعلم زرع مبادئ التفكير النقدي في عقول الناشئة، فإنما نطالبه بما لا يطيقه، ولا يقدر عليه، لأنه لا يعرف المقصود بالتفكير النقدي، ولا مبادئه، ولا أهميته، ولا حتى خصائص المفكر الناقد، ولا المهارات التي يجب أن يتحلى بها.

[ومن ثم إذا أردنا اتجاها نقديا إيجابيا في بلداننا تكون نواته المؤسسة التعليمية، فإن من الواجب أولا تأهيل المعلم في مجالات التفكير المتعددة، وتنمية الاتجاه النقدي لديه]، وأخص كل ذلك التفكير النقدي، فمثل المعلم من التفكير النقدي كمثل المرآة ممن يقف أمامها، والمعلم كذلك فهو مرآة لما أمامه من سوء المناهج أو حسنها، من سوء المناخ التعليمي أو حسنه، من سوء النظام التعليمي العام أو حسنه.

[فإذا لم يصب المعلم شيء من التأهيل على التفكير النقدي، فلا يظهر لنا في المرآة شيء منه، فالمعلم ورث التفكير التقليدي وتشبعه حتى النخاع، ومن ثم فلا يظهر فيها إلى معلم مقلد في تفكيره واتجاهاته وسلوكه]، فكما أن المرآة لا تعكس إلا ما أمامها، فكذلك شخصية المعلم ليست إلا مرآة للظروف المحيطة به مهنيا وعلميا ومجتمعيا وسياسيا وثقافيا إلى غير ذلك، بيد أنه يبقى على كل حال المحور الذي يستطيع أن يقود المنظومة إلى التغيير الأفضل والشامل، كونه يبني العقول، وفرق كبير - لا شك - بين من يبني العقول ومن يبني البطون !!.

ومن ثم، تكمن بداية الحل - وليس كل الحل - في أمرين فيما يتعلق بالمعلم:

[الأول، تأهيله وتدريبه على التفكير النقدي، حتى يكون ممتلكا لأدواته، فيستطيع حينها أن يقود الطلاب إلى المستقبل، وأن يصنع جيلا يغير مجرى التاريخ إلى الأفضل.

الثاني، توفير الجوّ الصحي والملائم له ليشارك في صناعة أجيال تستطيع قيادة العالم العربي إلى مصاف الدول العالمية، ولن يكون له ذلك دون توفير حياة مادية كريمة له، وإعطائه وضعه اللائق به أدبيًا ومعنويًا داخل المجتمع].

وإذا كان المنهج تقليديا، والمعلم غير مؤهل على التفكير النقدي، ولا حتى على غيره من ألوان التفكير، فنحن لا نجد جديدا فيما يتعلق بالمناخ التعليمي، والجو الذي تدير فيه المؤسسة التعليمية عملها. بيد أنه يجب التأكيد أننا نقصد بالمناخ التعليمي أمرين: [المناخ داخل المؤسسة التعليمية، والمناخ خارجها، بما يحيط بها من مؤسسات حكومية، ومؤسسات مجتمع مدني، ومؤسسات مجتمع محلي، فضلا عن المناخ الذي يمثله المجتمع العام بكل طوائفه].

فلا المناخ التعليمي داخل المؤسسة التعليمية يشجع على التفكير النقدي بسبب ما يعج فيه من من دعوة إلى المحاكاة والتقليد والنزوع إلى الارتماء في أحضان الماضي بكل قوة، باعتبار أن الجديد في نظره غير معروف، أو مجهول، وغير المعروف والمجهول يمثل لهم خطرا، ومن ثم فإن التفكير النقدي يمثل في وجهة نظره خطرا يجب الحذر منه، أو ربما على اعتبار أن هذا الجنوح يمثل نوعا من الانهزامية وقلة الحماسة من التطور نحو الأفضل، ركونا إلى الحالة السلبية التي شاعت ولا زالت. ولا شك أن هذا يغذيه بكل قوة منهج أصم، ومعلم مغلول العقل، قبل أن يكون مغلول اليدين والقدمين.

[ومن النادر أن تجد القيادة التربوية - وهي تمارس عنصرا من العناصر التي من المفترض فيها إشاعة المناخ التعليمي الجيد والعمل عليه - تمارس التفكير النقدي، أو أن تكون قدوة فيه يقتدي بها المتعلمون، ولو كانت إدارة المؤسسة التعليمية ممثلة في المديرين والوكلاء والمشرفين تمارس فيما بينها التفكير النقدي، لكانت عاملا من عوامل التشجيع عليه، وإشاعته داخل المؤسسة، إلا أن ذلك لا يتم، ومن ثم فإن المناخ التعليمي داخل المؤسسة ليس مشجعا على التفكير النقدي، فضلا عن أن يكون ملمّا بمبادئه وأهميته وأهدافه].

أما المناخ خارج المؤسسة التعليمية، فهو أكثر فقرا في التعاطي مع التفكير النقدي، فلا النظم السياسية تعمل على ترسيخه بين أبناء الوطن، فضلا عن عدم ممارسته في ممارساتها وخططها، بل لا نظن أن قضية التفكير النقدي تحظى باهتمامها، إضافة إلى ما ترسخ له هذه النظم من اتجاهات سلطوية تتنافى بالكلية مع مبادئ التفكير النقدي. ومن ثم وجب على تلك النظم إعادة النظر في موقفها من التعليم والتفكير، وأن تضع في برامجها وخططها تطوير التعليم على أسس واقعية، ليس غرضها اقتفاء أثر الغرب؛ لأن ما يتناسب مع البيئة الغربية من تطوير تعليمي قد لا يتناسب مع بيئتنا العربية والإفريقية، خاصة فيما يتعلق بالإمكانيات المادية والبشرية وغيرها. كما يجب عليها أن تضع في اعتبارها تطوير العقلية الوطنية والعربية من خلال برامج التفكير بمختلف أنواعه ومنها التفكير النقدي.

ولا مانع من أن تستعين هذه النظم بالمجتمع المدني ومؤسساته المنتشرة في طول البلاد وعرضها، على أن تشارك بوضع البرامج الخاصة بالتفكير وتنفيذها على أرض الواقع، من خلال تدريب المعلمين على التفكير النقدي وكيفية توصيل ذلك للمتعلم؛ حتى يكون هناك جيل يقود إلى النهضة الحديثة، وأن يشارك في صنعها.

وهذا كله دليل على أن الطالب أو المتعلم - وهو المنتج الذي يعمل الجميع داخل المنظومة التعليمية على أن يكون منتجا جيدا - مظلوم، فلا المنهج ملائم للتفكير النقدي، ولا المعلم مؤهل له، ولا المناخ العام والمناخ التعليمي يساعدان عليه، فلا نريد طالبا ناقلا للعلوم، وإنما نريد في هذا العصر طالبا مبتكرا للعلوم، ومشاركا في صنعها، واكتشاف العالم من حوله، ولن يكون ذلك إلا بتنمية التفكير النقدي والإبداعي.

إن التفكير النقدي له غاية معرفية كبيرة للطالب خاصة، حيث يساهم التفكير الناقد في إثراء الجانب المعرفي عامة؛ لأنه ينطلق من فحص الآراء وتحليلها إلى التفريق العقلي بين الغث والسمين، وهذا يساهم في بناء معرفي سليم.

فالتفكير النقدي تتمثل أهميته بالنسبة إلى الطالب - وهذا ما ذهب إليه أحد الباحثين في بيان أهمية التفكير النقدي على العموم - في الآتي:

[أ - أن التفكير الناقد نشاط ذهني عملي.

ب - أن التفكير الناقد يتضمن التفكير الناقد تفكيرا إبداعيا.

ج - كما يتضمن بدوره صياغة الفرضيات والأسئلة والاختبارات والتخطيط للتجارب.].

فالتفكير الناقد يمثل القدرة على الاستدلال وقياس المعلومات والأفكار وتقويم المناقشات انتهاء إلى الأحكام المنطقية. كما أنه عملية عقلية لتقويم نواتج التفكير التي تعتمد على صحة الأدلة، وتقييم الأسباب وتطوير حجج منطقية.

وهذا يعني أن التفكير الناقد عند المتخصصين يقوم على [فحص وتقييم الحلول المعروضة]. وعند بعض آخر، يستند إلى حل المشكلات والتحقق من الشيء وتقييمه بالاستناد إلى معايير متفق عليها مسبقا. [كما يستند التفكير الناقد عند بعض الباحثين على استخدام المستويات المعرفية العليا في تصنيف الدبلوم، وهي التحليل والتركيب والتقويم].

والحق أن التعليم في بلادنا خاصة وفي البلاد العربية عامة يحتاج إلى تغيير جذري لمنظومته التربوية والمنهجية برمتها، وكما قال الشيخ يوسف القرضاوي: "المنظومة التعليمية عليها أن تعطي تربية متكاملة، تربي الإنسان عقليا بالثقافة، روحيا بالعبادة، خُلقيا بالفضيلة، سياسيا بالوعي، اجتماعيا بالمشاركة، عسكريا بالخشونة". وهذا ما ليس موجودا مع الأسف الشديد !!.

ولذا، فالمهمة ثقيلة والعوائق كبيرة، بيد أنه يمكن التغلب عليها بالمزيد من الصبر، والمزيد من الاجتهاد، والمزيد من الرغبة في التغيير. وبدون ذلك، فإننا نحكم على المؤسسة التعليمية بالضياع، لأنه حينها سوف تكون مؤسسة منقوصة في درجة إجادتها، كما أننا - بطبيعة الحال - نحكم على الوطن كله بالاستسلام إلى الوضع القائم، والتخلف عن الركب، والرضى بتذيل الأمم والشعوب.

8. أكتوبر 2020 - 11:44

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا