على مقربة من حدود البلاد مع جارتها الجنوبية، وفي منكب برزخي هناك تقع مقاطعة نالها من التهميش والظلم والإقصاء الممنهج ما لم ينل مثيلاتها من مقاطعات الوطن، شاءت الأقدار لتلك المدينة التي ستكون مقاطعة فيما بعد أن ترى النور إبان فترة الاستقلال و ذلك لرهانات
رسمية معروفة كانت تهدف إلى الحيلولة دون إفراغ تلك المجالات من ساكنتها لصالح مناطق أخرى مجاورة قد تكون خارج سيادة الدولة حديثة النشأة فيما عرف "بعام اتْمَوْلية" نسبة إلى مالي. هذا "الاهتمام" الرسمي الذي رافق إنشاء "المدينة" ما لبث أن خبت جذوته واندثرت معالمه، و حل مكانه الإقصاء والتجاهل و النسيان لعقود طويلة منذ الاستقلال وحتي يوم الناس هذا، ولم يشفع للمقاطعة ذلك الامتداد المجالي الذي عرفته إبان التقطيع الإداري؛ والذي شهدته البلاد سنة 1986م حيث جعلها تضم سبع بلديات - تمثل خزانا انتخابيا مهما يُسيل لعاب الساسة الذين لا همَّ لهم سوى كم من ناخب في هذه الدائرة أو تلك؟- لم يشفع ذلك الثقل الانتخابي لتلك المقاطعة في لفت انتباه هؤلاء الساسة خلال العقود الماضية بتلبية ولو حاجيات يسيرة لساكنة المقاطعة. بنية تحتية هشة بل نقول معدومة، بتعداد ساكنة تناهز 40 ألف لا تحتوي المدينة إلا على مستوصف واحد بمعدات متهالكة ونقص في الكادر الطبي، نقاط صحية معدودة تتناثر في مناطق المقاطعة كحبات رمل في فلاة، هذا الوضع الصحي الكارثي جعل الكثير من أبناء المقاطعة ينزحون بمرضاهم صوب عاصمة الولاية أو يشدون الرحال إلى العاصمة نواكشوط، وما يمثل ذلك من تكاليف باهظة تثقل كاهل هؤلاء السكان الذين تئن الغالبية العظمى منهم تحت و طأة فقر مدقع....، ولا تسعف البنية الطرقية الغير موجودة أصلا سبل التحرك من وإلى المدينة، رغم سماعنا منذ ما يربو على العقد بجعجعة بدون طحين فيما بات يعرف في الاصطلاح المحلي" الجكني" ب"شَايْلتْ المسكين الِّ يتحرًّاها تولد وهي تتحرًّاه إِمُوتْ" إنه طريق "جكني لعوينات" تلك الطريق التي كان من المنتظر أن تقام في فترة نظام و لد الطايع ولكنها بقيت وعودا على الورق و لما ترى النور بعد، رغم التمويلات التي رصدت لذلك الغرض والتي تم مؤخرا رصد البعض منها لطرق تقع في بعض مقاطعات الولاية، أليس من الحري بمقاطعة جكني أن تكون على أولويات الجهة المسؤولة عن إنشاء وتعبيد الطرق ممثلة في وزارة النقل وذلك لما للمقاطعة من ثقل ديموغرافي هام على الصعيدين الجهوي والوطني وإن لم تكن تلك الأولوية حاضرة فعلى الأقل أن يكون هناك إنصاف وعدل مجالي يهم كافة مقاطعات الوطن دون تمييز. التعليم في المقاطعة ليس أوفر حظا من الصحة و الطرق، نقص وضعف في الكادر التعليمي وفي البنية التحتية، ثانوية واحدة وإعداديتين (إحداهما في جكني والأخرى في لعوينات)، لا توجد في الثانوية سوى شعبة العلوم الطبيعية اليتيمة لوحدها فلا تسألني عن شعبة الآداب التي تم إغلاقها مؤخرا؛ أحرى شعبة الرياضيات التي لم تفتح يوما في الثانوية منذ نشأتها، هذا الحال نجم عنه تقلص أعداد الناجحين في المسابقات الوطنية وهو ما أدى بكثير من أبناء المقاطعة إلى أن يطالهم داء التسرب المدرسي فلم يكن أمامهم سوى ترك الدراسة و البحث عن قوت للعيش. وعن الماء الصالح للشرب لا تسأل ففترات الصيف والعطش الذي يحل بالساكنة ومواشيهم كفيلة بإعطاء صورة واضحة عن الحالة التي يرثى لها لواقع عصب الحياة في المقاطعة، ومن مظاهر التهميش والإقصاء عدم وضع خطة تستفيد منها المقاطعة من مياه بحيرة "الظهر" الجوفية التي ستستفيد منها مقاطعات "النعمة" و"عدل بكرو" و"تمبدغة" فيما كان الإقصاء لمقاطعة جكني هو سيد الموقف. هذا الوضع الكارثي جعل المقاطعة تعيش في عزلة تامة فاقمتها ظروف اقتصادية سيئة تعيشها الساكنة الذين يعتمد جلهم على الثروة الحيوانية المتواضعة والتي ما فتئت ضربات الجفاف تغزوها إلى أن وضعت الكثير من السكان دون مستوى خط الفقر، فيما بقي البعض يكافح من أجل البقاء في معركة حياة يومية تزداد تعقيداتها يوما بعد يوم. إلا أنه من العدل إنصاف تلك الإدارات المتعاقبة، فما لم تستطع أن توفره لنفسها لا يطلب منها أن توفره لساكنة محلية مغلوبة على أمرها، والذهول سيصيبك عزيزي القارئ لو علمت أن مقاطعة "جكني" مقر مقاطعتها و غيرها من المقار الإدارية هي عبارة عن مباني مأجورة تعود ملكيتها لبعض أفراد من المقاطعة، و كأن سياسة التهميش والإقصاء لا تستهدف الساكنة فحسب للمقاطعة و إنما تطال إدارات الدولة فيها و لعل في ذلك عدل إن كان هناك من عدل. فإلى متى ستستمر هذه المهزلة ويستمر مسلسل التهميش هذا، والإقصاء والعزلة في حق مقاطعتنا الحبيبة؟؟ أليس في الساسة الذين حكموا و الذين لا زالوا يحكمون رجل رشيد يسمع ويستجيب و يخاف يوم الوعيد؟؟.
الباحث: أحمد جدو/ محمد عمو [email protected]