لا يكاد يمر يوم منذ تفجر أزمة الرسوم المسيئة إلا وتطالعنا مواقف مثيرة للإستغراب من إخوة لنا في الدين آثروا التموقع مع الجانب الآخر و تفهم مواقفه على حساب أمتهم المنتفضة ضد فرنسا والمطالبة بمقاطعة منتجاتها حتى تعتذر عن الإساءة للإسلام ومقدساته وتسن تشريعا يحرم المساس والإساءة لمقدسات المسلمين ، وقد فكرت كثيرا في سبب ذلك ، فعرفت أنه انبهار بالحضارة الغربية ومخرجاتها، وأهمها حرية التعبير والتفكير ، فمن هم المنبهرون بالحضارة الغربية ؟ وما موقفهم من الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام ؟
منذ اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب ما بعد حملة نابلون على مصر والأمة العربية في حراك فكري و ثقافي وسياسي ، تبلور على شكل تيارات فكرية وسياسية وأدبية متعددة، اختلف موقفها من الوافد الجديد بين منبهر به أو رافض له جملة وتفصيلا وبين موقف وسطي يرى عدم التناقض ما بين الحداثة والإسلام في العموم.
و باعتبار الفكرة الوسطية المعتدلة هي الأقوى والأكثر رواجا ومنطقية ، فقد انتصرت الفكرة التي تجمع بين الإسلام والحداثة، فهي ترى أن الماضي به صفحات مشرقة تستلهم منها الأمة تجربتها الجديدة و أن الحاضر به حداثة واعدة تأخذ الأمة بخيرها وتنبذ شرها، فهي سلاح ذو حدين، و رفضها مطلقا هو مجرد انغلاق غير مبرر، أما اعتبارها كل شيء ورفض الماضي فهو مجرد انبهار، وقد سادت هذه الفكرة فترة من الزمان، بيد أن " الإنبهاريين " ظلوا لها بالمرصاد ، شأنهم في ذلك شأن " الإنغلاقيين " سواء بسواء.
ودار الزمان دورته ، فتحالف الإنبهاريون مع أسيادهم على حساب دينهم وأمتهم، كيف لا ؟ ، وهم تبنوا رؤية الغرب للإسلام ، باعتباره حسب زعمهم " مجرد دين روحي " لا علاقة له بواقع الناس ولا حياتهم السياسية والإجتماعية والثقافية ، فأما إذا كان الإسلام له الكلمة في حياة الناس فإنه حينها يكون " إسلام سياسي " أو " أيديولوجيا متطرفة " تحاول التأثير في حياة الناس ونظمهم السياسية والإجتماعية والثقافية والفكرية ... ، وهنا إذا ثار المسلمون غيرة لدينهم ونصرة لنبيهم صلى الله عليه وسلم، _ بعد موجة الإساءات _ فإنما يثورون حسب رأي الإنبهاريين بسبب التطرف والأيديولوجيا المتشددة ، فهم لا يتفهمون أهمية الإسلام في حياة المسلمين ، ويقيسونهم على المسيحيين و موقفهم من دينهم ، بل ويأملون لو أن المسلمين أفرغوا الإسلام من محتواه الفكري والسياسي والإجتماعي والإقتصادي ليصبح مجرد شعائر فردية يقوم بها الشخص في المسجد كما يقوم المسيحي بشعائره في الكنيسة، ولكن هذا الأمل لم يتحقق لهم ، فإيمان المسلمين بأهمية الإسلام ودوره في حياتهم يزداد يوما بعد يوم ، بل إن أعداد المنتمين للإسلام تزيد _ ولله الحمد _ يوما بعد يوم .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه : ما موقف الإنبهاريين من الإساءة المقدسات الإسلامية ؟
الإنبهاريون لديهم تفهم عجيب وغريب للموقف الغربي من حرية التعبير التي تمس المقدسات الإسلامية ، والتي نسميها نحن المسلمين إساءة ، وهذا الموقف من الإنبهاريين يثير الكثير من الجدل حول الطريقة التي يفكرون بها ، فإن كانت طريقة عقلانية مجردة، فإننا نتساءل أليست حرية التعبير في الغرب _ التي تعلون من شأنها على حساب دينكم _ مقيدة، لا سيما ما يتعلق بالهولوكوست ومعاداة السامية والموقف من إسرائيل ؟! ، أليس في فرنسا قانون يمنع كراهية إسرائيل؟ ، فلماذا هذا الإنبهار بحرية التعبير إلى الحد الذي تتغاضون فيه عن الإساءة لنبيكم، ثم ألا يمنع منعا باتا المساس بالعلم الفرنسي وإهانته و تسن أقسى العقوبات لمن يقوم بذلك ؟! ، ألم تستدعي باريس سفيرها من أنقرة بعد ما اعتبرته " إساءة " أردوغان للرئيس الفرنسي ماكرون ؟ ألم تقم سفارة فرنسا في انواكشوط بإنهاء التعاقد مع رسام كاريكاتير موريتاني بسبب رسم يسيء للرئيس الفرنسي ؟ فأين إعلاء حرية التعبير في فرنسا و تقديسها ؟
إن المبادئ لا تتجزأ، وفرنسا نفسها التي تنبهرون بنظامها وأسلوب حياتها لديها خطوط حمراء لا تقبل المساس بها داخليا أو خارجيا، ولا يمكن التذرع بمبدأ حرية التعبير أثناء ممارسة تلك الأعمال المسيئة لعلم فرنسا و دستورها ( داخليا ) أو رئيسها( فيما يتعلق بتصريحات رؤساء الدول والحكومات ) ، فلماذا يتذرعون بحرية التعبير حين يتعلق الأمر بالإسلام ؟! ، ومع ذلك فأنا أتفهم عداءهم لنا كمسلمين، " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدروهم أكبر " بيد أني أعجب كل العجب من موقف مجموعة من " المسلمين " وصفتها ب" الإنبهاريين " ، تبرر أفعالهم وسخريتهم ، و تستغرب مقاطعة منتجاتهم، و تعتبر ذلك من ضروب التخلف والغوغائية ، وتسخر من حراك نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الممتد من جاكرتا حتى انواكشوط، بيد أن تصريحات ماكرون أمس لقناة الجزيرة الفضائية أصابتهم في مقتل، فقد أكدت كم المقاطعة الإقتصادية تؤذي الفرنسيين ، و انتقل رئيس فرنسا من " لن نتراجع " إلى " أنا افهمتكم " بسبب انتفاضة المسلمين شرقا وغربا ، و ما خفي أعظم ! .