إن جميع الأنظمة التي حكمت البلاد دأبت على خلق ثروات عملاقة (مقارنة مع الحجم الاقتصادي للبلاد) تعود إلى رجال أعمال لم يكونوا معروفين من قبل أو بالأصح و في أغلب الحالات كانوا يديرون نشاطات بسيطة في القطاع غير المصنف. إن هذه الطريقة أصبحت السبيل الوحيد لتكاثر عمالقة المال حتى لا نقول الأعمال. ثروات ضخمة فوضوية و عشوائية تكونت و تحولت إلى مجموعات من شركات البناء و الأشغال العامة، شركات النقل و الخدمات، شركات إنتاج الإسمنت أو بالأحق خلط وتعليب الإسمنت، شركات الصيد الصناعي، شركات بناء الطرق، شركات التأمين، مراكز تسويق، فنادق و بنوك. لم يكن هذا الأمر يثير مشاكل سوى معاناة الفقراء و المستضعفين من أبناء الشعب الذين لا تسمع أصواتهم و لا يخاف بطشهم.
إن الذين يجمعون الأموال بسرعة البرق و بواسطة علاقاتهم مع الموظفين الساميين (في السلم الإداري فقط) يبدءون بإظهار نعومة و سمنة تحت تأثير الوجبات المتنوعة التي يتناولونها يوميا مع رفاهية و ليونة حياتهم الجديدة.
في هرم الحجات البشرية المعروفة تحت اسم "هرم الحاجات" أو "هرم ماسلو" (باسم مخترعه) يقوم رجال الأعمال الجدد بحرق المراحل حيث ينتقلون مباشرة من المجموعة الأولى التي تركز جهودها لأجل إشباع الحاجات البيولوجية (من الحصول على هواء صالح للتنفس و أكل، و علاقات اجتماعية بدائية و نوم و تخليص) التي كانت تحدد سقف طموحاتهم إلى الطبقة الرابعة من الحاجات التي تتمحور حول الحصول على المحبة و الثقة في النفس و تقدير الآخرين و اهتمامهم و غير ذلك من نجاح اجتماعي.
فور حصولهم على الصفقات الكبرى الأولى بواسطة عقود التراضي طبعا يزداد حرصهم على الصلاة في المساجد إلا أنهم بعد فترة وجيزة يبحثون عن مساجد غير تلك الموجودة في حي سكنهم لأن بعض الجيران و غيرهم قد ينتظرون انتهاء الصلاة ليتقدموا ببعض المطالب و هذا أمر مزعج للغاية. و بعد ذلك بفترة قليل يستأجرون إماما لقيادة الصلاة في مسجد تابع للدار حيث ستكون له جماعته الخاصة من الزوار المهمين و الحاشية. ثم يقومون ببناء أو ترميم مسجد في الحي و قد يبنون مسجدا في الحاضرة التي ينتمون تقليديا إلى سكينتها و قد يزيدون يمولون أو يشرفون على حفر بئر أو اثنين لتوفير بعض الماء الشروب و يساعدون في شراء منظومة توفر إنارة بعض المصابيح لإبهار الظلام الحالك في تلك الحواضر. وقد يساعدون أهل الحاضرة بانتمائهم المميز لغر ما ينتمي إليه بني آدم.
و في نفس التوجه يبدأ الرجال الأعمال الجدد بتوزيع بعض الصدقات حيث ترى المارة حشدا من النساء و الشيوخ و المعاقين يتجمهرون أمام منازلهم أيام الجمعة و الأعياد لأجل الحصول على أي شيء. عند ما يمر المرء العادي بذالك المشهد فقد يتساءل لماذا يقوم صاحب هذا المنزل الذي يظهر من ضخامة منزله أنه ثري يقوم باحتجاز كل أولائك المستكين ليوم أو أكثر أمام منزله؟ إذا كان يريد التصدق علبهم لوجه الله، ألم يكن أرفق بهم وبه أن يكلف شخصا من وسطه أن يلتقي بهم في مكان حيادي (حتى لا يقع في الرياء) ليحررهم في أسرع وقت ممكن؟ قد يذكر المشهد بما يسمى في مجتمعنا "أنحيرة" حيث يقوم من لديهم المال ومن هم دون ذلك باقتياد رأسا من الإبل ناضجا إلى إلى من يحبونهم و الشخصيات "المهمة" مثل من تم تعينه في منصب سياسي أو مالي أو إداري رفيع عسى أن يشاطرهم بعض المنافع التي سيدرها عليه المنصب بطريقة غير قانونية بالطبع (حتى لا يقع التباس). بعد اقتياد "انحيرة" إلى صاحبها تبقى مقيدة لثلاثة أيام أو أكثر وقد يكون لذلك سببين أو أكثر الأول أن ترى الناس المارة التكريم الذي حظي به المقتاد لصالحه و هذا قد يأجج المنافسة بين المقتادين المحتملين فتزداد النحائر و الثاني أنه لا يمكنه إدخال الجمل في المنزل حيث لا توجد عادة في المنازل الحديثة غرفة نوم للجمال. قد يحصل ذلك قريبا إذا ما ظهرت فينا ثروات غير السمك و المعادن الصلبة التي تم نهبها إلى أن أصبحت مهددة بالإقراض.
اليوم، أصبح هناك بصيص من الأمل. لقد سمعنا و شاهدنا بعض الأمور التي توحي بأن الرئيس الجديد مصر على أن يتم استرجاع كل ما سرق أو نهب أو اختلس أو بدد من المال العام. بالتأكيد لم يأتي الخبر و الالتزام بهذه الدرجة من التعميم لقد بدأ هذا الكلام بتشخيص محتشم بعض الشيء للفساد ربما بدوافع أخرى قد يختلف حولها الجميع. المهم أن التوجه المعلن عنه يفيد بأن الفساد (لم يقال: ولد) بل استفحل مع العشرية التي أمضاها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز و بعض من الذين دعموه و عملوا تحت رئاسته من وزراء و إداريين وسياسيين إلى درجة أن فسادهم أصبح هو الفساد الذي كانت تعاني منه موريتانيا منذ استقلالها و قبل ذلك بعصور.
و هكذا اقتصر التحقيق على بعض الصفقات أو المشاريع التي تم القيام بها في تلك الفترة دون غيرها و قد سمعنا بأن بعض الصفقات التي أدرجت في اللائحة التي أعدت لجنة الجمعية العامة تم تناسيها لما قد يسبب نبشها من حرج للقائمين على الشأن العام.
لكن مطاردة الرئيس السابق و كل الرؤساء السابقين و كل من عمل معهم و تحت قيادتهم و الحجز على جميع ممتلكاتهم بما فيها ما قد يكنوا ورثوه عن آبائهم لن يفوق نسبة 10% من القيمة النقدية لما سرق ونهب دون الرجوع إلى ما تكبدته البلاد من تراجع في النمو و من انتشار الجهل والفقر و خيبة الأمل بسبب تلك الأعمال المشينة.
إن ما يناهز 90% من المال العام الذي نهب بشتى الطرق و الوسائل لم يكن بأيدي الموظفين العموميين. بل إنه بأيادي رجال الأعمال الذين حصلوا على صفقات مشبوهة و قاموا برشوة الموظفين و زوروا العروض و البضائع و الخدمات و رفعوا الأسعار إلى درجة عالية قد تسبب الدوران.
نعم لقد أصبح معروف منذ القدم في بلادنا أن أي موظف توضع تحت يده أمانة تتعلق بصر ف المال العام أو توزيعه أو تحصيله يبدأ بتكوين شبكة موردين للبضائع و الأشغال و الخدمات ثم يقوم بعد ذلك بتدويس (تخدير :بالمعنى الحساني)جميع الأشخاص الذين يمارسون الوصاية أو الرقابة على النشاط الموكول إليه تسيره لصالح الوطن و المواطنين.
أولائك الموردين و المقاولين و المستشارين و الخبراء هم البنوك الخاصة (من القطاع الغير مصنف) التي تودع لها الأموال العامة ليتم غسيلها و توزيعها بين الشركاء في جريمة نهب المال العام. لا أعرف إن كان نهب المال العام ممن أوكلت إليهم مهمة حراسته و صيانته و جمعه و صرفه للصالح الوطن والمواطنين قد يشكل خيانة عظمى. إن المال شقيق النفس و قد يكون المال العام لا يختلف كثيرا عن مال اليتيم خاصة في الدول التي يغيب فيها الوعي و القانون. من المؤكد على الأقل أنها جريمة مغلظة من جرائم القانون العام.
إذا سؤل موريتاني أي موريتاني فبإمكانه أن يعدد بدون مجهود يذكر لائحة الأشخاص و المجتمعات التي بيعت لها بثمن بخس بنوك الدولة و شركات التأمين و يواخر الدولة للصيد الصناعي و مصانع معالجة و تخزين الأسماك و المساحات الزراعية الشاسعة (مع تمويل الحملات الزراعية لصالحها بمليارات الأوقية) و منحت لها رخص الصيد الصناعي للأخطبوط و الرخويات و غيرها من الأسماك الثمينة. و علينا ألا ننسى المساحات الشاسعة من الأحياء الحضرية و شبه الحضرية و الريفية التي منحت لأولئك الأشخاص و مجتمعاتهم المقرب و شبه المقربة بأـثمان معدومة.
في الماضي و قبل أن يحل المال النقدي و القيمي محل كل القيم المادية و المعنوية كانت التنافس يدور منح التكوين العلمي و الدراسات العليا في أكبر الدول سمعة و أهمها جامعات و معاهد. كما كان الحصول على الوظائف السامية في الدولة ومؤسساتها و في السفارات و الهيئات الدولية و على الصفقات العمومية القلية وقتها أو الحصول على مساحة في الإعلام العمومي (إذاعة و صحافة عمومية...) محل تنافس قوي. نعم كما هو الحال اليوم كانت تلك الامتيازات و المنافع لا يحصل عليها إلا عن طريق النسب أو الانتماء الترابي أو العلاقات الشخصية الضيقة. ،نعم كانت توجد استثناءات في كل العصور لكنها لم تتجاوز ذلك الحد.
نعم لقد قلت بأن أي موريتاني عادي يمكنه بسهولة أن يخمن ما خسرته الدولة الموريتانية من المال العام لصالح أشخاص و جماعات معدودة أصبحت تزن ما يعادل 80% من القطاع الخاص الوطني.
قد يكون غير مجد و غير مقنع أن تلاحق الحكومة الحالية المرتشي دون أن تزعج الراشي فقد تفضي هذه العملية إذا تمت بإحكام و فنية و تجرد و موضوعية إلى استرجاع جزء قليل مما نهب مما يشكل الجزء المرئي من الجليد. و ستبقى الأموال الكبرى بأيادي رجال أعمال خلقوا من عدم فأصبحوا راشين مرتشين مستودعين للمال العام قائمين على تبييضه.
إن عملية متابعة المال العام و محاولة استرجاعه قد تكون مؤلمة بعض الشيء لأن الحياة العامة و خاصة الخاصة للبلد كانت ولا تزال مبنية على تحويل المال العام إلى ممتلكات خاصة حيث التنافس يبقى على اختراع أحسن الطرق و الوسائل لتحقيق ذلك الهدف بسلاسة و بأقل المخاطر.
إن الخيارات المتاحة للنظام الحالي ليست كثيرة :
إن الخيار الأول يتمثل في القيام بحملة واسعة النطاق تلاحق المال العام و مختلسيه في أي مكان و أي زمان بغض النظر عن الطريق و التقنيات التي تم بها الاختلاس و قد تشمل :
خوصصة بنوك أو شركات تأمين أو شركات عمومية أو شركات ذات مال مختلط بثمن بخس مقارنة مع القيمة الحقيقة للأصول،
إسناد تنفيذ مشاريع و صفقات عمومية من طرق و مطارات و مواني و استصلاح أراضي زراعية و نظافة،
منح في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى من الشفافية رخص الصيد البحري و خاصة مصانع الموت أعني شركات "الموكا" أو مسحوق الأسماك الذي ضاعف الأمراض التنفسية و الجلدية و بعض الأمراض الخبيث في بعض سكان مدينة انواذيبو و بعض زوارها، خاصة و أن الرخصة كانت تباع بما يناهز 200 مليون أوقية فما فوقها،
منح ملايين من الأمتار المربعة في المناطق الحضرية و شبه الحضرية و الريفية في ظروف غامضة مظلمة خسرت فيها الدولة مليارات من الأوقية القديمة. لنذكر من بين تلك المساحات "رباط البحر" و "الديار القطرية" و فندق أهل سيدينا و مساحات كبرى في ضعف حجم ملاعب كرة القدم الكبرى موجودة في جميع الأحياء التي تم منحها منذ عقود و لازالت تمنح إلى عهد ليس بالبعيد. من بين تلك المساحات تلك المطلة على شاطئ البحر عشرات الكيلومترات حيث تم منحها لمن لم يستثمروا فيها و لو قليلا بل احتكروها و تركوها كما هي حتى ترتفع الأسعار ثم يبيعونها بالتقسيط كما هي عادتهم.
في ضواحي كل المدن و في أطرافها يتم منح قطع كبير على أنها مناطق ريفية مخصصة للأغراض الزراعية و الصناعية في الأوراق على الأقل ثم تتوسع المدينة فتصبح المنطقة حرية و ترتفع الأسعار و تبدأ عملية التجزئة و البيع بالتقسيط. أنظروا مدينة انواكشوط على طريق الأمل ثم طريق أكجوجت، ثم طريق أنواذيبو ما بين المدينة و مطار أم التونسي. و هذا هو الحال بالنسبة إلى جميع عواصم الولايات و بعض الحواضر. تملك الأراضي العمومية بثمن بخس ثم احتكارها ثم بيعها بالسعر الغالي الأمر الذي يسبب خسارة كبيرة للخزانة العامة لكنه ينعش بعض الجيوب، جيوب المانحين والمستفيدين.
إذا كان النظام الحالي ينوي ملاحقة المال العام و استرجاعه فلا بد له أن يكون مؤمنا أشد الإيمان بهذا التوجه و عليه أن يكون مستعدا لمواجهة غالبية فئات الشعب التي لديها حناجر تصرخ بها و تضج و تنوح و تنذر بنهاية الدنيا. سيواجه النظام قبائلا بأكملها و إثنيات و أحزاب و منظمات مدنية و حتى أناس يلبسون ثيابا غير مدنية.
لا بد للحاكم الذي يريد أن يقلد الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه و يسأل أصحاب النفوذ و المال المشبوه دون إفراط أو تفريط :"من أين لكم هذا؟" أن يكون مؤمنا و شجاعا و أن لا يخاف قي الله لومت لائم.
أما الخيار الثاني الذي قد ينتهجه النظام الحالي فهو تضييق نطاق البحث و متابعة المال العام المفروض اختلاسه من طرف الرئيس السابق و بعض أفراد أسرته و بعض أهله، إضافة إلى قلة من مساعديه و من طاقمه الذين استماتوا فيدعمه دون أن يشكلوا ثروات قد ينتفع بها إبان العشرية المستهدفة.
من فوائد هذا الخيار الأخير أنه لن يكون حربا على الفساد بقدر ما سيشكل عملية ميدانية أو جراحية قد ينم من خلالها تصفية الرئيس السابق ماليا و سياسيا حيث ستتبخر من حوله الثروات المفترض أنه عمل أو ساهم في تشكيلها و التي هي بيد أناس لا ينتظرون سوى الضوء إشارة من النظام القائم ليتكالبوا عليه و ينهشوا نهشا. بالتأكيد سيلفظ الرئيس السابق أنفاسه بسرعة تحت ضغط الدولة التي قد يصعب عليه رفع ركبتها من على عنقه ليحصل على فرصة التنفس من جديد.
يبدوا أن هذا الخيار، إلى يثبت العكس، هو الخيار الذي تبناه النظام القائم، إلا أنه سيترك الموريتاني العادي، المواطن المجهول يعاني من عطشه الأبدي إلى العدالة و المساواة مع احتمال أن يحاول أن يرويه باللجوء إلى حلول أخرى.
لا يزال النظام الجديد يحتفظ بغالبية شركاء الرئيس السابق في حكمه و تسييره في أغلب المناصب السامية للدولة و الإدارة رغم وجود عدد كبير وردت أسمائهم في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية ومن ما يعرف القاصي و الداني رغم عدم ورود أسمائهم في التقرير المذكور.
و قد يعزز هذا الخيار ادعاء الرئيس السابق بأنه مستهدف دون غيره على الأقل من بين 317 مشتبه فيهم و أن أسباب استهدافه سياسية بحتة.
بالنسبة إلى الموريتانيين فسيحتفظون في ذاكرتهم المملوءة بخيبة الأمل بأنه كان هناك يوم تصفية حسابات حقيقية أو مفتعلة خسرت فيها البلاد كثير من الوقت و العمل و الإمكانات و لم تعطي نتيجة تذكر .