يمر العالم كله بمرحلة دقيقة لم يعهدها من قبل و إن كانت معطيات و أحداث الربع الثاني من القرن الماضي المتلاحقة و أزماته الغير مسبوقة قد حددت و مهدت و مكنت للمستشرفين من قراءة معالم المقبل. و قد تتابعت أطوار هذه المرحلة على وقع كبرياء روادها و إيقاع زهوهم بما توصلوا إليه و به من حرية العقل و تطويع العلم بما نفعهم من غير "حمد" و يضر به بعضهم بعضا بغير "تعقل" إلى دروب الهوان و مسالك الضياع.
في عين هذا الإعصار العاتي يمر منذ أشهر الوطن العربي بمخاض عسير، قد ينجب فيه لأمته هامشا من الرؤى الحداثية المقبولة تتحرك بداخله ككتلة منسجمة ضمن التيار، و قد يلد تسونامي كاسح يشرذمها و يجعلها، لا قدر الله، أثرا بعد عين.
و على وقع هذه الوصلة الحزينة من تاريخ الإنسانية، تقف موريتانيا، حافية القدمين على عشب ربيع عربي محترق تنبعث منه سحب دخان كثيفة تشوش على رؤيتها الضعيفة أصلا و تنذر بالحريق. ففي تونس التي احترق فيها أول عود من عشب الربيع العربي توجه رئيس حزب الإصلاحيين جميل ولد منصور ليؤيد الإسلاميين الذين حققوا هناك فوزا مؤزرا على كل منافسيهم من أصحاب التوجهات المغايرة في أول انتخابات حرة تجري في ذاك البلد.
و إلى ليبيا أرسل منذ الوهلة الأولى زعيم المعارضة و رئيس حزب التكتل المعارض إشارات التأييد و المؤازرة، و من فرنسا ـ حيث انطلقت أولى شرارة النيران التي التهمت ليبيا و أنهت حكم اللجان الثورية الخضراء الخارج على الزمان و المكان جملة و تفصيلا و قضت على من أسس له فكرا و عملا و حكم به أربعة عقود العقيد معمر القذافي ـ انطلقت تفاصيل موقف حزب اتحاد قوى التقدم حيث كان زعيمه محمد ولد مولود يتداوى شفاه الله و عافاه.
أما في الداخل فقد انطلقت بقوة قبل أن تنتهي خجولة، حركة شبابية احتجاجية أطلقت على نفسها حركة شباب 25 فبراير، محاولة مد الجسر مع نظيراتها من الشاب العربي في البلدان التي شهدت زوال أو هروب أو محاكمة أو ارتجاج حكامها.
و لكن مهما بلغ تأثير الربيع العربي من أهمية على الحراك السياسي الموريتاني فإنه سيظل حتما دون ما يبرر لهذا الحراك الحاصل من الداخل ـ على وتيرة قضايا وطنية قائمة بذاتها، متشعبة و ساخنة ـ السعي إلى البحث عن التغيير الإيجابي الذي يضمن حلحلتها و تبرير الطموح إلى ترسيخ الديمقراطية نهجا لاستدامتها. و ليس أضمن لحصول كل ذلك من الانتقال من مرحلة التنافر و التطرف الفكري إلى مرحلة الإصغاء إلى الآخر في إطار "الحوار" المتحضر علما بأن الحوار كل لا يتجزأ. فمهما أريد لأطره التي ينبني عليها أن تنجر إلى الانحياز فإن ماهيته و روحه يأبيان تلقائيا ذلك، وما تأباه فطرة الأمور لا يكون.
ومما لا يجوز الشك فيه أن أي حوار لا يمكن إلا أن يفرز نتائج من الأهمية بمكان و هي مسلمة لا مناص من أخذها بعين الاعتبار. فإن الحوار إذا لم يفض في أولى جولاته إلى كل النتائج التي ترجوها الأطراف المشاركة، فإنه حتما يفتح الأبواب على مصراعيها للتدرج إلى بلوغ المقاصد.
إن النقص الحاد في منسوب الأمطار هذه السنة في بلادنا يدعو إلى التأمل في الخطوات التي يجب اتخاذها لتجنب آثاره التي ستكون دون أدنى شك مؤثرة على قطاعي الزراعة المطرية و الرعي الذين هما قوام حياة و نشاط ما يناهز 80 بالمائة من السكان.
ولا تكمن هذه الخطوات المطلوبة بإلحاح في المجالات الفنية فحسب و إنما ـ و ذا الإطار الأهم الذي تنصهر فيه كل الجهود ـ في المجال السياسي. فنجاح الدول الحقيقي يقاس بحنكة صفوتها السياسية و قدرتها على قراءة المستجدات و التعاطي معها بما يضمن الأمن بشقيه (الغذاء و الاستقرار). و لا يمكن للظروف الصعبة التي تعتري البلد لسبب أو لآخر من جراء النكبات المناخية أو بسبب الإرهاب الذي لا موطن له، أن تكون مطية إلى الحكم أو إلى الاستئثار به على حد سواء، فذالك هو الشطط السياسي و مصدر النكبات أو لأهوال و المتاعب التي إن وقعت في مصيدتها البلاد ينكسر جناحاها و تسقط في قفص المنبوذين.
ولا بد إذا، في وجه التحولات الخطيرة التي يشهدها العالم و الأزمات التي تعيشها البلاد أن يتريث الجميع و يسعى إلى تهدئة الأوضاع و هضم النفس و استلال سيف الجد والحزم للوقوف معا، وإن في مرحلة استراحة المحارب، للمرور بالبلاد إلي بر الآمان .
وإذا ما تعدت السحابة السوداء و هدأت عواصف المرحلة الهوجاء فلا ضير أن تبدأ إذا مرحلة الاختلاف السياسي لكن هذه المرة على وقع المنجز الجديد.