في هذا الزمن الرهيب تبدلت المفاهيم وتغيرت المثل، راجت الساسف والمظاهر، وتعلق أصحابه بالأوهام دون الحقائق وبالقشور دون اللباب.
إنه حال أمة، أصيبت بعمى الألوان، أمة انمحت أنفتها اضمحلت قيمها، حيث أصبح تركيزها الأساس على المظاهر، دون بذل عناء الغوص في الأعماق لسبر أغوارها، مكتفين بما يرونه من بهرجة خارجية وزهو وخيلاء وبطر، وقديما قيل: "المظهر خدّاع".
إنها ظاهرة قديمة، لكنها استفحلت في أيامنا هذه، بفعل طغيان العوالم المادية في مجتمعاتنا، فبمجرد الظهور بمظهر لايوحي بذلك البعد المادي، تؤخذ بجريرة ذلك، ولاتلق كبير اهتمام أو تقدير.
وهو ما دفع بالكثير من العامة إلى التركيز على ذينك الجوانب المتمثل في اقتناء أحدث ما جادت به صيحات الموضة من مظاهر جذّابة وأكسسوارات مع نفس من خيلاء، تغطية على ذلك الخواء المعرفي والأخلاقي والذي سرعان ما تتضح ملامحه، ويفتضح أمره عند أول اختبار.
وهي الحالة ذاتها التي نبه إليها العباس ابن مرداس، منذ قرون خــلت يــــقـــــول:
ترى الرجل النحيف فتـزدريه
وفي أثــوابــه أســد هـصــور
ويــعجـبك الطــرير فــتبتليـه
فيـخـلف ظـنك الرجل الطرير
وتتضح الصورة أكثر، مع الإمام الشافعي، الذي هو من هو؟! علما وأدبا، مشيرا إلى الظاهرة السابقة الذكر، التي يبدو أنه عايشها وربما عانى منها، فيفصح عن ذلك بقوله:
علــي ثــياب لو تــقــاس جـمـيعـها
بفــلس لــكــان الفـلس مـنهن أكثرا.
وفــيــهن نــفس لو تقـاس ببـعضها
نفــوس الــورى كـانت أجل وأكـبرا.
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده.
إذا كــان عــضـبا حيث وجهته برى.
ليست هذه دعوة إلى إهمال المظهر والزهد فيه ولبس الأسمال والرث من الثياب والخلق منها، والابتعاد عن اقتناء ما هو أحسن وأجمل، كلا وحاشا، فالله جميل يحب الجمال.
لكنه تنبيه ودعوة إلى عدم الاغترار أوالانبهار به لوحده، واعتباره مرجعا لتقويم الشخص ومستوى مكانته في المجتمع، إذ الإنسان جسم وروح، ولاينبغي الاهتمام بالجسد على حساب الروح، فنتغافل عن الجزء الأهم الذي يغذي الروح من استقامة وتواضع وعلم ومعرفة، بها كُرّم الإنسان وعلى ضوئها تم تشريفه.
كما لا يجب أن نجعل من ذلك المظهر، دثارا أنيقا من قبله الثراء ورغد العيش وباطنه من قبله الأمراض القلبية من حقد وغل وحسد وتربص بالآخر والمكر به عند أول سانحة.
أشار إلى ذلك واستفهم عنه قبلنا استفهاما إنكاريا، الشاعر الكبير والمبدع صاحب سيف الدولة الحمداني، أبو فراس حين يقول:
بمـن يثـق الإنسان فيما ينوبه؟
ومن أين للحر الكريم صحاب؟
وقـد صار هذا الناس إلا أقلهم
ذئــابا عـلى أجـســادهن ثياب.
ومــا كـل فـعّال يـجازى بفعله.
ولا كــل قــوّال لــدي يُــجـاب.
بعض من كل وغيض من فيض وقطرات من توجيه وتنبيه، نرجو ونأمل أن ينجرّ عنها - ومع الوقت- أضاة توجيه محتواها سائغ، لذة للعارفين وموئل للمظلومين ومورد وموجه ومرشد للمصلحين، وملهمة للحكام والمسيرين!