لقد آن الأوان لأن يتشبه البرلمان الموريتاني ببرلمانات العالم، ففي أغلب برلمانات العالم يُحظر استخدام اللغات الأجنبية في مداولات ونقاشات النواب، لأن ذلك يشكل انتقاصا من السيادة الوطنية. ففي فرنسا مثلا يحرم استخدام أي لغة غير الفرنسية في البرلمان الفرنسي، وفي تونس يحرم استخدام أي لغة غير اللغة العربية في البرلمان التونسي، وفي المغرب يحرم استخدام أي لغة غير العربية والأمازيغية داخل البرلمان المغربي..وهكذا، فلماذا يبقى البرلمان الموريتاني هو الاستثناء الوحيد؟
(1)
لا شيء يبرر الحديث باللغة الفرنسية في البرلمان الموريتاني، إذا ما تحدثنا بلغة القانون واحتكمنا إلى الدستور، فالدستور الموريتاني يقول في مادته السادسة بأن : " اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية. اللغة الرسمية هي العربية." فهل جاء ذكرٌ للغة الفرنسية في هذه المادة؟ بل هل جاء أصلا أي ذكر للغة الفرنسية في أي مادة من مواد الدستور الموريتاني؟
لا فرق بلغة أهل القانون بين هذه المادة والمادة 28 من نفس الدستور الموريتاني التي تقول: "يمكن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمرة واحدة". فلماذا نقيم الدنيا ولا نقعدها عندما يتم التفكير بالمساس بالمادة 28، وذلك في الوقت الذي ندوس فيه يوميا على المادة السادسة من نفس الدستور داخل البرلمان، وفي الإدارة، وفي مراسلاتنا الدبلوماسية ؟
أوجه هذا الكلام لنواب المعارضة التقليدية الذين طرحوا خلال العقد الماضي مئات الأسئلة الشفهية والمكتوبة عن مختلف المواضيع والمجالات، ولكن لم يطرح أي واحد منهم سؤالا واحدا عن الانتهاكات اليومية المتكررة للمادة السادسة من الدستور الموريتاني.
على من يريد التحدث باللغة الفرنسية تحت قبة البرلمان الموريتاني أن يدعو إلى استفتاء على تعديل المادة السادسة من الدستور الموريتاني، وأن يبحث عن المصوتين، وعندما يصوت الشعب الموريتاني على أن اللغة الرسمية لموريتانيا هي اللغة الفرنسية، فحينها سيحق للجميع التحدث باللغة الفرنسية تحت قبة البرلمان. ومن قبل أن يحصل ذلك، فعلى الجميع أن يحترم الدستور الموريتاني ويتوقف عن الإساءة إليه من خلال الحديث بلغة أجنبية تحت قبة البرلمان.
(2)
وإذا ما تحدثنا بلغة الأرقام والإحصائيات فإن تقارير المنظمة الدولية للفرانكفونية تقول ـ وهي التي لا يمكن اتهامها بتقليل نسبة المتحدثين باللغة الفرنسية في موريتانيا ـ بأن نسبة المتحدثين بهذه اللغة في موريتانيا لا تتجاوز 13%، وهؤلاء يتحدثون بالإضافة إلى الفرنسية إحدى لغاتنا الوطنية الأخرى على الأقل . فبأي منطق نحرص على التواصل مع 13% ولا نحرص على التواصل مع 87% من الشعب الموريتاني؟
وتقول أيضا لغة الأرقام بأن اللغة العربية تأتي من حيث الانتشار في الرتبة الرابعة عالميا، وأن اللغة الفرنسية تأتي في الرتبة التاسعة (وهي في تراجع مستمر)، فبأي منطق نحرص على التواصل مع الناطقين باللغة الفرنسية والذين يمثلون الرتبة التاسعة في العالم، ولا نحرص على التواصل مع الناطقين باللغة العربية الذين يمثلون الرتبة الرابعة عالميا؟
ومن قبل أن أختم هذه الفقرة التي تتحدث بلغة الأرقام والإحصائيات، فلا بد أن أشير إلى مغالطة أخرى يطرحها المدافعون عن اللغة الفرنسية، وذلك عندما يبررون تمسكهم باللغة الفرنسية بالخوف على مصير عدد كبير من حملة الشهادات الذين تعلموا باللغة الفرنسية. مهما كان حجم ذلك العدد فسيبقى أقل بكثير من عدد حملة الشهادات باللغة العربية، فبأي منطق يقلقكم مصير أولئك ولا يقلقكم مصير هؤلاء، وهم أكثر عددا؟
فإن طالبتم حملة الشهادات باللغة العربية بتعلم اللغة الفرنسية حتى يتمكنوا من العمل في الإدارة المفرنسة، فلماذا لا تعربوا الإدارة وتطالبوا حملة الشهادات بالفرنسية أن يتعلموا اللغة العربية حتى يتمكنوا من العمل في الإدارة المعربة، خاصة وأنهم أقل عددا من حملة الشهادات باللغة العربية.
(3)
وإذا ما تحدثنا بمنطق ترتيب الأولويات، وفي هذا رد على أولئك الذين يقولون بأن تعلم اللغات هو أمر مطلوب. صحيح أن تعلم اللغات هو أمرٌ مطلوب، فمن تعلم لغتين هو أفضل ممن تعلم لغة واحدة، ومن تعلم ثلاث لغات أفضل ممن تعلم لغتين، وهكذا. ولكن ومن باب ترتيب الأولويات، أليس الأولى بنا أن نتعلم لغتنا الرسمية من قبل أن نتعلم أي لغة أخرى، وإذا ما تعلمنا لغتنا الرسمية جاز لنا حينها أن نتعلم لغة ثانية أو ثالثة.
يتعلم أحدهم اللغة الفرنسية ولا يتعلم اللغة العربية ثم يقول لك إن ديننا الإسلامي يحث على التعلم ولا يعادي أي لغة. هذا صحيح، ولكن مادام ديننا لا يعادي أي لغة فلماذا لا تتعلم أنتَ اللغة العربية فهي لغة قرآنك وهي اللغة الرسمية لبلدك، وهي بالتالي أولى بالتعلم من أي لغة أخرى.
نحن إن طالبنا بتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني، فلا يعني ذلك بأننا نعادي اللغة الفرنسية، فلتعش اللغة الفرنسية معززة مكرمة في فرنسا وفي برلمان فرنسا، ولتعش اللغة الرسمية لموريتانيا ولغاتها الوطنية معززة مكرمة في موريتانيا وفي برلمان موريتانيا. إن من يُطالب بهذا لا يعادي اللغة الفرنسية، وإنما يُناصر لغة بلده الرسمية ولغاته الوطنية، فمتى كان الانتصار للغات الوطن معاداة للغة أخرى؟
(4)
وإذا ما تحثنا بلغة المستقبل، فعلينا أن نعلم بأن مستقبل اللغة الفرنسية مظلم وقاتم، فهي تتراجع بشكل كبير, ولذا فليس من الحكمة التمسك بلغة ليست لغتنا، ولا مستقبل لها. يحتج المدافعون عن اللغة الفرنسية بالقول بحياد اللغة، فما دامت اللغات محايدة، ومادامت الفرنسية ليست لغتنا، وما دام مستقبلها مهدد، فلماذا لا نبدلها بلغة العلم والعالم في زماننا هذا، أي باللغة الانجليزية، فنفعل مثلما فعلت رواندا.
وإبدال اللغة الانجليزية باللغة الفرنسية أصبح من مطالب الكثير من النخب في الكثير من الدول التي استعمرتها فرنسا وورثتها اللغة الفرنسية.
(5)
في الختام لابد من القول بأننا فشلنا خلال العقود الست الماضية في جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد بسبب مضايقة الفرنسية لها، وفشلنا كذلك في تطوير لغاتنا الوطنية بسبب مضايقة اللغة الفرنسية لتلك اللغات. فكيف لنا أن نطور هذه اللغات في وقت يرفض فيه الناطقون بتلك اللغات التحدث بها داخل البرلمان، وذلك مع العلم بأن مداخلاتهم ستتم ترجمتها بشكل فوري، وبأن كل مداولات البرلمان أصبحت تبث مدبلجة على قناة البرلمانية بكل لغاتنا الوطنية.هناك إصلاحات كبيرة قيم بها في الجمعية الوطنية لصالح لغاتنا الوطنية، ولكن الغريب في الأمر أن من وقف ضد تلك الإصلاحات هم النواب الذين كان يفترض بهم أن يكونوا هم من يُطالب بتلك الإصلاحات.
إننا نعيش منذ ستين سنة وضعية مختلة وغير طبيعية، واستمرار الحال على هذا الحال سيزيد الأمور تعقيدا، فهو سيزيد من تهميش لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية لصالح اللغة الفرنسية، ومن هنا وجب لفت الانتباه إلى هذه الوضعية المختلة.
المؤسف في الأمر أنه كلما قيم بمحاولة للفت الانتباه إلى هذا الخلل الذي نعيشه منذ ستة عقود ماضية قامت قيامة البعض. على أولئك الذين لم ينددوا في أي يوم من الأيام بهذا الخلل، ويسارعون اليوم إلى التصدي لكل من يحاول لفت الانتباه إليه، على أولئك أن يعلموا بأنهم يخدمون اللغة الفرنسية بتصرفاتهم المشينة تلك، وأنهم يعملون ضد لغتهم الرسمية ولغاتهم الوطنية، علموا ذلك أو لم يعلموه، فبقاء الحال على حاله سيبقى لصالح اللغة الفرنسية.
حفظ الله موريتانيا..