ويكون ذنبك أحاناً أن وُلدت في بلدك، واخترت لنفسك مسار حياتك، في حينٍ المُسلم لدى أصحاب القرار فيه أنك مسير لا مُخير.
منذ ٣ سنوات متتالية؛ تحرص وزارة التعليم العالي على تبني فلسفة تَخالها ضابطة لتعداد الطلاب في سلك التعليم العالي، مُقلصة أعداد الطلاب، بتحويل من تجاوزوا سن ٢٤ سنة إلى تخصصات خارج سلك التعليم العالي، أو حرمانهم من التسجيل دون تقديم بديل.
تندرج هذه الخطوة ضمن أخريات، يعتقد معالي الدكتور سيدي سالم أنها إصلاحية للتعليم العالي الوطني، منها على سبيل المثال؛ دمج المدارس والجامعات، وتقليص المبتعثين للخارج، والاهتمام بالتخصصات الهندسية، فباقي العلمية، ثم إعطاء الهامش للتخصصات الأدبية..الخ
مبدئيا؛ هذه الفلسفة تُحترم، كونها تنبني على غرض إصلاحي، وتجد أيضا من يعمل على تطبيقها بشكل جيد.
غير أن المشكلة توجد عند النظر بتمعن في فصول الفكرة ومدى قابلية الآليات الموضوعة لتحقيق الهدف الإصلاحي الذي رصدت له. وهل التقييم المرحلي لتنفيذها يكون بناءً فعلا أم مشخصن؟
وبما أن الوزير استمر في لعبة "إياك أعني واسمعي يا جارة" مع المواطنين الذين تجاوزوا ال٢٤ من حملة الباكلوريا هذا العام، وقرر أن لا يكون صريحا فيمنعهم التسجيل، ولا متراجعا عن خطئه في عدم السماح لهم بولوج التعليم العالي؛ يحسن عرض هذا القرار على مشرحة التقييم من خلال الإجابة على السؤالين آنفي الذكر:
-أولا: ما مدى قابلية القرار لتحقيق الهدف الإصلاحي الذي قصد به؟
بدءا هذا التصرف الصادر عن اللجنة الوزارية غير محقق لغرضه من حيث المبنى، إذ هو مخالف لنص الدستور، بحيث إن الحق في التعليم مكفول لجميع المواطنين على حد السواء دون قيد أو شرط، وإذا قال قائل: "أن المنع لم يكن، إنما من صلاحيات الجهاز التنفيذي إمضاء ما يراه أقوم ضمن اختصاصه التنفيذي"، فلا اعتراض هنا، إلا من قِبل المحكمة العليا التي أثبتت في حكم إداري سابق أن المنع من الدراسة على أساس العمر غير قانوني... وإذا كان المنع على ذلك الأساس غير قانوني.. فإن اعتباره (" أي السِّن ") عامل إقصاء أو تفضيل هو ضرب من ضروب الحرمان تنطلي عليه ذات القاعدة الحاكمة بعدم جوازه قانونيا.
ثم إن سياسة الوزارة وتصريحاتها توضح أن الهدف من القرار؛ تخفيف الضغط عن المؤسسات، من أجل أداء أفضل، وهو أمر متفهم جداً، ومرغوب.
لكن بالعودة للواقع ندرك أن التحسينات الملحة ليس أولها ولا أهمها تقليل أعداد الوالجين للسلك، بقدر ما أكثر إلحاحِ ضبط المناهج المدرسة وترقيتها، وتوفير ظروف خدمية لائقة، وترقية الإدارات والمصالح، وبناء منظومة تربوية رصينة... هذا وغيره من الإصلاحات الداخلية أولى بالنظر والتقديم من تقليص الطلاب المستفيدين من خدمات التعليم العالي.
حتى إن تأثير وجود أعداد الممنوعين من التسجيل نسبي حد عد التأثير على أي عملية إصلاحية يقام بها للقطاع.
ومع دخول القرار حيز التنفيذ منذ ٣ سنوات لا نزال نلمس ذات الأزمات في التعليم العالي، من فضائح تقنية، وترهل في المناهج المدرسة، وسوء في الخدمات الطلابية، وفساد إداري تربوي يشبه السرطان الفتاك.
مما يعني أن قابلية القرار لتحقيق الهدف المرصود له؛ نسبية جداً، مع كونه قفز على المراحل، وتقديم مهم على ماهو أهم.
ثانيا: تقييم جدوائية القرار خلال السنوات المنصرمة، هل كان شفافا؟
بكل تأكيد أن القرار لم ينفذ، وإن دخل حيز النفاذ، لكن ردة الفعل التي صدرت عليه لثلاث سنوات متتالية من قبل الطلاب وجميع مكونات الشعب، كانت دافعة بشكل قوي وملفت لأن ينظر في قيمة القرار وأثره على المجتمع، والدولة، حال تطبيقه، وتأثر قطاع التعليم به حال تجميده أو إلغائه..
ذلك أن آخر إحصاء معلن للسكان في الوطن، بلغ ٤ ملايين نسمة، تنخر الأمية حسب إحصاءات قبل ٥ سنوات نسبة تفوق ٤٠٪، وبواقع أكثر ٣٠٪ من الشعب تحت خط الفقر، كما تشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أن نسبة البطالة بلغت ما يقارب ٣٠% وزيادة.
هذا الواقع المر يعطي صورة عن حاجة المجتمع الهش اقتصاديا ومعرفياً للتعلم والدراسة، خصوصاً إذا وضعنا في الحسبان أن نسبة كبيرة من ١٥٠٠ طالب التي تتجه الوزارة لحرمانها من التسجيل هي في الغالب من مكونات المجتمع الأكثر هشاشة. وأن البدائل التي أتيحت أشبه ما تكون بالعذر الذي هو أقبح من الحرمان.
في حين أننا نمتلك جامعتين، ومدرستين، و١٠ معاهد توجه لها الوزارة رسميا، وباستطاعتنا في ذات الوقت زيادة الطاقة الاستيعابية لهذه المؤسسات وخلق أخرى جديدة بكلفة صفر عبر بالشراكة مع جهات خاصة في القطاع، والاعتراف بمؤسسات قائمة، وبالتأكيد سيمكننا ذلك من احتواء هذه ١٥٠٠ دون كبير عناء.
وإذا لم نقم بذلك ما أرى الوزارة إلا أسهمت في الإفساد من حيث أرادت الإصلاح، وضيعت مآت من أبناء الوطن بحجج واهية غير مقبولة، ولنا تجارب قاسية مع حرمان الطلاب من الدراسة وصلت ببعضهم للسجن بقضايا خطيرة كان دافعه فيها حرمانه من حقه في الدراسة.
وما أرى الطلاب وأهلهم مع هذا القرار، وواقع العيش في بلادنا لدى غالبية المواطنين؛ إلا كحال الرجل السابق مع حانة ومانة.. كان الله في الوطن وأهله.
يحكى أنه:
تزوج رجل بامرأتين، إحداهما اسمها حانة، والثانية اسمها مانة، وكانت حانة صغيرة في السن لا تتجاوز العشرين بخلاف مانة التي كان يزيد عمرها على الخمسين والشيب لعب برأسها. فكان كلما دخل إلى حجرة حانة تنظر إلى لحيته وتنـزع منها كل شعرة بيضاء. وتقول: «يصعب عليَّ عندما أرى الشعر الشائب يلعب بهذه اللحية الجميلة وأنت مازلت شاباً». فيذهب الرجل إلى حجرة مانة فتمسك لحيته هي الأخرى وتنـزع منها الشعر الأسود وهي تقول له: «يُكدِّرني أن أرى شعراً أسود بلحيتك وأنت رجل كبير السن جليل القدر». ودام حال الرجل على هذا المنوال إلى أن نظر في المرآة يوماً؛ فرأى بلحيته نقصاً عظيماً، فمسكها بعنف وقال: «بين حانة ومانة ضاعت لحانا».