لا أدري إن كان للوداع نفس الطعم في أفواه الجميع؟ وهل يختلف عند الرجال، ويظهر بطعم آخر عند النساء اللاتي غالباً ما يسبقنه أو يتلينه بدموع غزار؟ أتحدث عن الوداع بالمطلق، وداع الإنسان لإنسان عزيز، وداع مكان، وداع أشياء، حتى وداع القيم النبيلة والعادات والتقاليد حينما يتخلى عنها بعض الناس سهواً أو عمداً لتحل محلها قيم أخرى جديدة ووافدة، وداع الاهل والاقارب والوطن ،فالوداع الذي أعنيه بدءاً من أن تستظل بفيء شجرة، ويعز عليك مفارقتها، لأنها منحتك للحظات برودة تلك النسمة، ورائحة ثرى الأرض أو تساقط عليك شيء من ثمرها إن أثمر واكتمل أو شكلت سحابة تحرس رأسك من وهج الشمس، ولا أنتهي عند الفراق المرّ لعشرة طويلة بين اهل ،واقارب،واحباب، إما وداع قسري تفرضه طبيعة الحياة والموت أو افتراق بتراض نحو هجرة أو سفر . وأعتقد شخصياً أنه كلما كان للوداع كلماته القاطعة، والفجيعة به بطريقة مأساوية أو حلّ فجأة دون رضا الأطراف، كلما كان قاسياً على النفس، وحارقاً في العين، وباقياً في الذاكرة، ولو أحصيت الوداعات في الحياة من كبيرها إلى صغيرها، فستجدها لا تعد، وتختلف من شخص الاخر في التفاصيل والاهتمامات
الكثير من الناس تكره الوداع، وتبغض لحظاته، وتتمناه أن يؤجل بطريقة ما، تماماً مثلما تبغض الانتظار ودقائقه وثوانيه الطويلة، وشخصياً أحب أن أستقبل، وأكره أن أودع بشراً، شجراً أو حجراً، لأنها أمور قد عانيت منها وعنيت لي شيئاً في يوم ما، حيث تحلّ بعد الوداع حزن وكآبة لا تعرف دخانها، ولا تعرف متى تنزاح عن الصدر، فقط تنتظر الوقت أن يفعل فعلته في التناسي والنسيان، والإحلال بشيء طارف بدل التليد!
وناس قد يأتون لأول مرة، وتعرفهم وقتها، ويشكلون لك معنى، ويضيفون لك تجربة، لكن حين يصل وقت وداعهم، ينقبض الصدر من جديد، لأنه لم يحب يوماً كلمة الوداع!
عجبت أيضا لأمر التاريخ حين يمزج في توثيقه بين نغمة الحزن والإحساس بالغربة في حادث الهجرة النبوية الشريفة وبين الأمل في العودة والتي انتهت بفرحة العودة لذات الموطن بعد حين مكللة بآكاليل النصر ومتوجة بتحقيق الوعد الحق في حياة الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، فهل يتحقق مثل هذا الأمل بوعد جديد لكل من هجروا قسرا من أوطانهم بسبب العيش او الدراسه.....؟
جموع موريتانيه مدفوعة للهجرة قسرًا، باعثها الأول هو اليأس من الحصول على مجرد فرصة حياة هروبا من الجوع واليأس والبطالة والجهل والفساد والقهر ونهب المال العام
بينما العالم ينظر إليهم ـ وبخاصة اليمين المتطرف ـ ـفي مجتمعات المهجر على أنهم "مشكلة فائض سكاني" تهدد استقراره وتغير بنيته الاجتماعية وتؤثر في نسيجه النقي الذي يجب أن يظل نقيًا ويتهمون أحيانا بالجواسيس ومرات اخري بالارهاب ......
وإلى الآن كثير من ابنائنا المهاجرين يعانون مرارة الاحتجاز في معسكرات المحتجزين المشردين وسجون دول إفريقيه -لأنهم من جنس معين، او من دين معين او خلفيه معينه اومشكلة اوراقهم الثبوتيه وهذه حجه ملفقه عادة، ولم يحظوا بما حظيت به بعض الحيوانات المائية من الحماية والرعاية، وضمان المأمن مهما كانت قريبة من الصياد الغادر، حيث القانون الدولي يوفر الحماية لهذه الحيوانات المائية بينما لا يوفرها لهؤلاء المهاجرين اللذين هاجرو لتأمين قوتهم اليومي والعيش الكريم وكانوا أعزة في أوطانهم ، ويستطعون عيش حياة كريمة ومستقرة وآمنة في بلدهم الغني وتعدادهم القليل مقارنه بموارد الوطن لكن الأنظمه المتعاقبة شردتهم وجعلت منهم لاجئين مشردين في دول اخري .
الهجرة من مكان إلى مكان آخر لا تتم عادة إلا إذا كانت هناك مشكلة في المكان الأول،ونحن مشكلتنا الفساد والسرقه والنهب وسوء التسيير والمحسوبيه
هل ابقي ام أهاجر؟ هو سؤال يراود كل موريتاني في الآونة الأخيرة، خيار الهجرة يرجّح لدى كثيرين، وغالبية الباقين هم غير قادرين على الهجرة.
كان المهاجرون ينقلون مرارة الهجرة لساكني موريتان، لعلّها تجعلهم يفكرون مرتين قبل المغادرة، إلا أن المستجد اليوم هو تشجيع المهاجرين للساكنين على الخروج.
عندما تسأل أحد المهاجرين عن الأوضاع في الخارج، يقول لك بين مكاني هنا وموريتان طبعًا هنا أفضل، في موريتانيا لايوجد امل
ليس هناك شيء نعمله في هذا البلد، سوى انتظار الموت واليأس والاحباط بهذه العبارة اليائسة يصف المهاجرون الوضع في الوطن .
والحقيقه الوضع محبط، ، وكثير من الناس الذين تحطمت آمالهم بعد مسيره دراسيه حصد فيها لكثير من الشهادات واستقبله الوطن بالكآبة والمشقة الاضطهاد .
وبحزن يعتصر قلبه، يحدثني صديقي امس حاصل علي (شهادة دكتورا اقتصاد من الجزائر سنة 2018 جامعة مغنيه) ويتقن 3 لغات هاجر الي إفريقيا بعد حرب طويله مع البطاله والتنقيص والتهميش والاهانه والكذب والخيانه يقول
(ليس هناك من أمل نعيش لأجله في الوطن، أو انفراجا نترقّبه، كل شيء يقود إلى الجنون أو الانتحار)، بحسب صديقي وفقه الله في رحلته.
وكان حلمه العمل في بلده وتقديم المساعده في التنميه والتطوير أتذكر انه كان مسرورا ايام تخرجه ومتأكد من حصوله علي العمل ولم يكن يوماً يحلم بالغربة، والبُعد عن وطنه واهله خصوصا بعد أن حصل علي شهادته وعمره 38سنه، بل يعشق تراب الوطن والعيش فيه، لكنه الآن يقرر الهجرة عن بلد لم يعد له فيه مكان يأوي إليه، ويعصمه من ذلّ الفقر والقهر.الإحباط والألم يقول لي: (أتمنّى في هجرتي إلى أي بلد آخر، ان أترك خلفي كل الهموم والمآسي، فلا أمل بالبقاء في بلد تقاسمه الفاسدون ، والمنتفعون من معاناة الناس وأوجاعهم، وقد اتعبنا أنفسنا بالدراسه ولم نغتنم فرصة التجاره......)
ربما تُحرر الهجرة صديقي من حياة كبّلته بقيود لا فكاك منها، وأزماتٍ معيشيةٍ ونفسيةٍ أرهقته، ولم يعد قادراً على حملها بعد أن كسرت كل مجاديف الأمل، في واقع مُر سيطرت عليه قوى وجماعات انتهازية، سخّرت كل مقدّرات البلد لمصالحها، واستحوذت على المال والوظيفة والقرار.
لا يدرك معظم الأشخاص مدى المجهود والضغط الذي قد يتطلبه العيش والاستقرار في مجتمع مختلف وثقافة لم يعتادوا عليها, كما يعد التوتر والضغط والقلق الناتج عن ذلك استجابة طبيعية لتغيير المناطق المحيطة, فقد نشعر جميعًا في بعض الأحيان بأن أمور الحياة غريبة وصعبة, كذلك قد يعاني العديد من الأشخاص من مشاعر اليأس والإحباط, فهو أمر شائع وطبيعي, وقد يواجه الكثيرون مشاعر قوية أخرى وردود أفعال عنيفة, والتي قد تكون مربكة ومخيفة, وبالرغم من ذلك تعد هذه الأمور رد فعل طبيعي تمامًا للتغيير, وحتى بعد هذه الأوقات العصيبة عادةً ما تكون هنالك انطلاقة جديدة وآمال وأحلام طموحة لاكتشاف طرق ووسائل التكيف مع الحياة في البلد الجديد.
وبسبب عدم التيقن من المستقبل في البلد الجديد ونقص أنماط الحياة المُعتادة الكثير من الضغط والتوتر, فالتركيز على المواقف الجديدة يتطلب المزيد من القوة والطاقة, وهو أمر مُرهق ذهنيًا, وفي نفس الوقت, يتعين على الشخص أن يكون قادرًا على تكوين علاقات جديدة وذلك لتعويض غياب العائلة والأصدقاء القدامى والأهل والأقارب والجيران, ومن الممكن ألا يجد المهاجرون عملاً مناسبًا على الفور, كما قد يواجهون أيضًا بعض المشاكل فيما يتعلق بالمعيشة والمال والطعام والسكن, ويكون ذلك مصحوبًا بردودِ فعلٍ عنيفة وعاطفة قوية في أغلب الأحيان, والتي من الممكن أن تكون مثيرة للخوف, و تعد هذه المشاعر القوية جزءً مفهومًا وطبيعيًا من عملية التكيف.
ومن بين هذه المشاعر وردود الأفعال خلال تلك المرحلة: التعب والضعف والإحباط واليأس و الانزعاج والشعور بالمرارة والغضب والكراهية والعدوان والأرق والكوابيس ونسيان الكلمات والأسماء والمواعيد، وصعوبات الانتباه والصداع والحمي واضطرابات المعدة وعدد من الأعراض الجسدية الأخرى كالخوف وانعدام الثقة وعدم القدرة على فعل أي شيء أو التواصل مع المجتمع الجديد واستهلاك الفرد لطاقة كبيرة وبذل مجهود مبالغ فيه لترتيب أوضاع حياته الخاصه.
من الأمور التي غالبًا ما تساعد المهاجرين هي معرفة أن المشاعر السلبية جزء معتاد في عملية الهجرة الطبيعية, وأن هذه المرحلة سوف تمر أيضًا, ففي بعض الأحيان يشعر الأشخاص بالخوف من أن شخصيتهم تغيرت للأبد وأن ردود الفعل والمشاعر السلبية سوف تبقى جزءً منهم, وهذا غير صحيح تمامًا, إذ أنهم سوف يتخطون هذه المرحلة عندما يتعاملون مع أفكارهم ومشاعرهم, ولكن قد يؤدي عدم القيام بذلك إلى حدوث أزمات عميقة أو الإصابة بالاكتئاب أو الانحراف الاخلاقي والتطرف الاجتماعي كشرب الخمر وتعاطي الممنوعات والسرقه أحيانا خصوصا اذا كانت عادات البلد تختلف عن عاداته وتقاليده التي تربي عليها.
الغربة والاغتراب..إحدى أكثر عذابات النفس الإنسانية ، وأشدها مرارة ولوعة، وهناك مئات آلاف الموريتانيين المعذبين في الغربه ممن اكتوت قلوبهم ببعد الأحبة واغترابهم عنهم..وعن الأوطان!!
ومع قساوة الغربه ومعاناتها لا ننسي أيضا أن هناك شخصيات بارزة صمدت وجعلت من الألم نجاحا فهناك تجار ورجال أعمال علي مستوي عال وسياسيين كبار ولديهم نفوذ دولي ومفكرين وباحثين وأساتذة وعلماء تكونو وكونو ثروتهم الماديه والعلميه والمعرفيه في المهجر وشخصيا اصبحت الغربه جزء من حياتي وتأقلمت معها والعالم بالنسبة لي دوله واحده اسافر وقت ما أشاء وكأني اسافر في موريتان واتنقل بين مدنها.
وفي الاخير الغربة قهوة سادة تكمن مرارتها في ذاتها، قد تكون أيامك جميلة والشوارع نظيفة والجيران لطفاء والسماء زرقاء وأكمل أنت يا صديقي القافية ولكنها تبقى غربة "مرارتها فى ذاتها"، النّاس تحسدك دائماً على شيءٍ لا يستحقّ الحسد، حتّى على الغربة يحسدونك، وكأن التشرّد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً. فالغربة يا صديقي فاجعة يتم إدراكها على مراحل، ولا يستكمل الوعي بها إلا بانغلاق ذلك التّابوت على سؤال لطالما لم يكن له إجابة، هل يُشفق الوطن يوماً على أبنائه ويسترجعهم من أحضان رجل غريب اسمه "غُربة"!