تمر علينا الأن الذكري الستون لعيد الإستقلال الوطني المجيد وهي مناسبة سعيدة نستحضر فيها جميعًا التضحيات الجسام التي قدمها الأباء والأجداد دفاعًا عن كرامة وعزة و إستقلال البلاد. فمنذ أواسط القرن التاسع عشر ميلادي مع بداية التوسع الإستعماري بإتجاه السواحل الموريتانية ، قام محمد لحبيب أمير الترارزة برسم سياسة مواجهة لهذه الأطماع التوسعية الفرنسية وجمع لها الدعم والمؤازرة من مختلف أمراء البلاد و مشائخها وذلك بهدف صد أي عدوان محتمل لتغيير الوضع السياسي القائم . وهي السياسة التي أتبعها خلفاؤه من بعده حتي بعد خضوع إمارة الترارزة للإحتلال ووضعها تحت الحماية الأجنبية سنة 1903 . لقد شهدت السنوات الأولي من الإحتلال ميلاد حلف سياسي جديد بين أمير تكانت بكار بن أسويدأحمد و أمير لبراكنة أحمدو بن سيد أعل و ذلك بهدف إعاقة التقدم الفرنسي داخل البلاد. وقد أخذ هذا التحالف طابع الجهاد المقدس و أفضي في النهاية إلي تشكيل حركة وطنية معادية للفرنسيين أتسع نطاقها شيئًا فشيئا و كسبت الكثير من الأنصار داخليًا و خارجيًا. لقد تمكنت هذه الحركة الوطنية المقاومة للإستعمار من إلحاق هزائم متتالية بالجيش الفرنسي وحققت إنتصارات مشهودة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر ، معركة " ميت" في لبراكنة سنة 1904 و القضاء علي الحاكم الفرنسي في تجكجة في عملية نوعية أذهلت الإستعمار و أربكت حساباتة سنة 1905. هذا إضافةً إلي الإنتصار المزلزل الذي تم تحقيقه في معركة النيملان سنة1906، حيث قام المقاومون بإبادة فرقة عسكرية فرنسية بكاملها و الإستيلاء علي عتادها العسكري. وبعد إنتقال مركز المقاومة إلي أدرار لعب أمير أدرار سيد أحمد ولد أحمد عيدة أدورًا بارزة في مقارعة الفرنسيين بدعم و مؤازرة من الشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل و أبنائه من بعده . لقد تصدت المقاومة في أدرار ، التي تبنت شعار الجهاد الشرعي ضد المحتل، ببسالة وحزم لحملة قورو علي المنطقة سنة1908م ، وكبدت الجيش الفرنسي خسائر فادحة في الأرواح في كل من واقعتي تيفوجار و أماطيل علي التوالي 26، 30 دجمبر 1908م، وهو ما أعترف به قورو نفسه.
بعد سقوط أدرار المعقل الأخير للمقاومة ، أعتمدت هذه الأخيرة أستيراتيجية الكر والفر و تنفيذ العمليات الخاطفة ضد الأهداف الفرنسية، حيث قامت في العديد من المرات بمصادرة المواشي التي تمتلكها الإدارة الفرنسية و إفتكاك بريدها و التضييق علي الأهالي الموالين لها وذلك في مناطق متعددة من الوطن وخاصة منها ، أرقيبةو تكانت و كيديماغا و الكوركول... وغيرها.
موازاة لذلك ظهرت معارضة كبيرة في أوساط قبائل الزوايا ضد النصاري و ثقافتهم و صدرت في هذا الشأن عدة فتاوي تحرض السكان علي عدم التعاطي
معهم ومقاطعة مدارسهم والهجرة في وجههم إذا أقتضي الأمر ذلك.
وفي هذا السياق، لابد من الإشادة هنا بدور العلماء ورجال الدين و مشائخ الصوفية من أمثال المختار بن أبلول و محمد العاقب بن مايابا والشيخ حماه الله والحاج محمود با ممن حملوا لواء المقاومة الفكرية والثقافية في هذا البلد.
و بالرغم من محاولة الإستعمار تبسيط الأدوار الوطنية التي لعبها هؤلاء وءولائك ، ونعتهم بجميع الأوصاف التي لا تليق، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها تؤكد أن جهودهم هي التي أعاقت مشاريع الإحتلال لأكثر من أربع وثلاثين سنة و منعته من بسط نفوذه دفعة واحدة علي أراضي البلاد. كما أنها أفشلت بشكل واضح مخططات سياسته الثقافية التي لم تحقق أهدافها طيلة الحقبة الإستعمارية.
اليوم بعد مرور ستة عقود من الإستقلال السياسي والإقتصادي عن المستعمر الفرنسي ، يتطلع الموريتانيون في ظل قيادة فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني إلي رفع التحديات التنموية المختلفة وتحسين مستوي معيشتهم. وقد أطلق سيادته برنامجًا طموحا للإصلاح أسماه " تعهداتي" ويأتي ضمن أولوياته إصلاح القضاء ومراجعة المنظومة التربوية الوطنية و توفير التغطية الصحية الكافية
وهيكلة الإقتصاد و ترسيخ دعائم الوحدة الوحدة الوطنية الشاملة بين جميع مكونات الشعب. وفي هذا الصدد، فإننا
نسجل بإرتياح كبير الإنجازات التي تحققت لحد الأن رغم أنقضاء خمسة عشر شهرًا فقط من مأمورية الرئيس والتي شملت:
- إصلاح المنظومة القضائية و فصل السلطات و إعداد القوانين الخاصة بمحكمة العدل السامية والتأكيد علي إستقلالية القضاء،
- الشروع في مباشرة مراجعة المنظومة التربوية الوطنية من أجل ملائمتها مع متطلبات البلاد التنموية مع التركيز علي
نموذج المدرسة الجمهورية الجامعة،
- تحقيق نتائج معتبرة في مجال التعليم العالي علي مستوي الحكامة والجودة و ترقية التكوين المهني والبحث العلمي،
- التصدي بحزم لجائحة كورونا والتخفيف من أثارها السلبية و إعطاء الأولوية في برنامج الحكومة لدعم قدرات وجاهزية القطاع الصحي وتوسيع التغطية الصحية و تحسين تنظيم القطاع و الرفع من نوعية خدماته،
- إستصلاح ألاف الهكتارات من المزارع الجديدة بولاية الترارزة و تشييد عشرات السدود في مناطق متفرقة من البلاد ودعم المزارعين بعد الفياضانات الأخيرة
في إطار سياسة تهدف إلي تحقيق الإكتفاء الذاتي من الحبوب والخضروات
وتوفير الأعلاف للمنمين بأسعار مدعومة،
- تفعيل الإقتصاد وربط القطاعات الإقتصادية فيما بينها من أجل زيادة الإنتاجية العامة ومستوي المداخيل والقضاء علي جيوب الفقر وذلك من خلال خطة الإقلاع الإقتصادي التي أطلقتها الحكومة مؤخرا،
- تشجيع القطاع الخاص لتنمية قدرته الإنتاجية في مجال السلع والخدمات والصناعات والدفع به إلي مزيد من الشراكة مع الدولة و المجتمع المدني خدمة للإقتصاد الوطني،
- حماية البئة والحفاظ علي التنوع البيئي و التصدي للكوارث الطبيعية والحد من أثارها السلبية و ذلك خلال موسم الأمطار الأخير هذا علاوة علي تشييد العديد من نقاط المياه في الوسطين الحضري والريفي ،
- التركيز علي الفئات الهشة من خلال مشاريع وكالة التضامن الهادفة إلي تأمين تعادل الفرص بين السكان وتحقيق الإنسجام الإجتماعي المطلوب بين فئات الشعب،
- إطلاق برامج لتشغيل الشباب وتقريب الخدمة العمومية من المواطنين و تفعيل مشاركة المرأة في الحياة السياسية و الإقتصادية،
- إصلاح نظام الوظيفة العمومية من خلال مراجعة السن الوظيفي و عصرنة الإدارة العمومية لتستجيب لمتطلبات المرحلة،
- إحراز نجاحات كبيرة في مجال السياسة الخارجية مكنت من تحسين صورة البلاد في محيطها العربي والإفريقي والدولي وعززت من شراكتها في المنظمات الدولية،
- إعادة الإعتبار إلي المنظومة القيمية للبلاد و التاكيد علي بعدها الحضاري الإسلامي و ترقية الإبداع الثقافي والفني وتطوير الصناعات التقليدية و إصلاح الإعلام.
والخلاصة أن هذه الورشات الإصلاحية الكبيرة التي تعلق عليها آمال فئات عريضة من الشعب لا يمكن أن تعطي النتائج المرجوة منها دون تظافر جهود الجميع من نخب سياسية و فكرية و نقابية ومن هيئات مجتمع مدني للإنخراط بشكل جدي في عملية الإصلاح والبناء و الإلتفاف حول الرئيس لتنفيذ برنامجه الإنتخابي خدمة لموريتانيا و شعبها و أجيالها المستقبلية.