أصدر البنك الدولي تقريرا عن موريتانيا زعم فيه أن نسبة عشرة في المائة من السكان لم يتمكنوا بعد من الولوج لسجل السكان الذي تديره الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة!
ولست هنا في وارد تأكيد أو نفي هذه المعلومة، فلست مخولا بذلك أولا، ولا أمتلك آليات الاستقصاء المطلوبة ثانيا، بيد أن لي رأيا في الموضوع -كمواطن مهتم بالشأن العام وإصلاح وطنه، لا كموظف في القطاع المعني أو مخول بالحديث نيابة عنه- حيث أرى أن التقرير يبالغ كثيرا في وصف الواقع، خصوصا في ربطه للعشرة في المائة المتبقية (إن صح التقدير) بالفئات الأكثر فقرا وهشاشة!
أعتقد أن أكثر الموريتانيين يعانون من نقص الوعي بالوثائق وبالكسل المزمن تجاه استصدارها، يستوي في ذلك الغني والفقير، والمسؤول والسائل عنه، وسكان المدن والحواضر مع سكان البوادي والأرياف؛ وأي نظرة لأي منا في محيطه ومعارفه كفيلة بتأكيد ذلك!
وحتى كثير من الأسر التي يفترض فيها الوعي والحصول على التعليم تجدها لم تستصدر بعد الوثائق لأبنائها ولم تسجل زواج الأبوين أصلا.. ؟!
المواطنون هنا -أو أغلبهم- لا يلجؤون للإجراءات إلا بعد أن تفرضها المدارس أو المستشفيات، وبعضهم قد لا يدرس أبناءه في المدارس النظامية، أو يلجأ للوساطة لتسجيلهم دون وثائق.
أعتقد أن الحل يكمن في مراجعة شاملة من الدولة للقوانين الناظمة، والاستراتيجيات الإدارية المتبعة في مجتمع يعاني الفقر والجهل والتفكك الأسري، وغيرها من المعوقات.
فإذا أضيفت إلى ذلك البيروقراطية الإدارية وزيدت بربط الإحصاء في حالات لا حصر لها بقطاع العدالة فإن الأمر يزداد تعقيدا.
القضاة أنفسهم يتساءلون -أو بعضهم على الأقل- عن سر ربط عقود الحالة المدنية بقطاعهم؟ ففي ذلك تعقيد للإجراءات، وتعسير على المواطنين أكثر منه تيسيرا لحل مشكلاتهم.
أما كان يفترض أن تعطى الثقة - كاملة غير منقوصة - لضباط الحالة المدنية ليباشروا جميع الأحداث المرتبطة بالحالة المدنية، دون أن يحتاج المواطن إلى قطاعين كلاهما أصعب إجراءات من صاحبه (العدل، الداخلية)؟
إن الثقة لا تتجزأ، ومن ائتمن على عقود الزواج والميلاد في الآجال المحددة قانونا، يمكن ائتمانه عليها في كل حين، تسهيلا للإجراءات وتخفيفا على المواطين.
ونفس الأمر ينطبق على تصحيح الوثائق، الذي كان يفترض فيه أن يكون من صلاحية رؤساء المراكز، سيما أنهم هم من أصدروا الوثائق أول مرة، أفلا يكونون أقدر على تصحيحها؟!
يبقى أن أشير إلى أن كل إصلاح منشود لن يتأتى له النجاح إلا بوعي المواطن بحقوقه وواجباته.
وهنا يتأكد العمل على توعية المواطنين بضرورة الحرص على المبادرة بالتصريح بأحداث الحالة المدنية في الآجال المنصوصة، وبالطرق المدنية السليمة ( الدقة في المعطيات والتواريخ المصرح بها، احترام الطابور، البعد عن الزبونية والوساطة والرشوة.. إلى غير ذلك من المسلكيات الشائنة).
وما أستيع تأكيده هنا هو أن ثمة جيلا من شباب موريتانيا نذر نفسه لخدمة وطنه بإخلاص وتجرد منذ إنشاء الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة، وأنهم لم يبخلوا يوما -ولن يبخلوا- في سبيل إحصاء كل من يثبت انتماؤه لموريتانيا بغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه، وأن تسهيل الإجراءات والبعد عن العيوب البيروقراطية بات أولوية لديهم إدارة وعمالا، انسجاما مع توجهات الدولة في هذا السياق.
على أنهم وبذات العزم لن يقبلوا إدخال أي كان في السجل الوطني للسكان -بصفته مواطنا- إذا لم يكن يخوله القانون ذلك، ولديهم من آليات البحث والتحقيق ما يمكنهم من أداء هذه الأمانة على الوجه المطلوب؛ فليربع "الأغيار" على أنسفهم، فللوطن شباب يفديه ورب يحميه.