الحمق داء ما له دواء.... حقيقة يقشعر لها البدن. و إذا ما كانت النخب هي المصابة به... فأين يكون إذا من عواقبه الشنعاء المهرب؟ إن للحمق أوجها عديدة أعظمها و أخطرها وقعا على مصير أي بلد هو عزوف نخبه عن الحوار تحت أية أعذار أو في المقابل فرض أية قوالب له من غير توافق أطرافه. حقيقتان لا تعنيان الحوار الصريح و الشفاف في شيء و لم تعودا مقبولتين بحكم وعي الشعوب بمصائرها و إدراكها بأهمية التوافق من منطلق الحوار في خلق الاستقرار و ضمان لعدالة و التنمية المستدامة.
ليس الحوار كلمة خفيفة على اللسان تمر فقط مر الكرام على الآذان جزافا ثم تساق في مبادرات تخرج من لا مكان في زمان لا تستوعبه اللحظة لتسجيل محطة تهدئة مرحلية وعابرة في واقع سياسي مضطرب، بل هو سلوك مدني رفيع وجوهري في أي عمل سياسي جاد يراد فيه "وجه الوطن و ضمير الأمة".
و شروط الحوار سهلة و قريبة إن خلصت النوايا، و بعيدة ممتنعة إن خبثت المقاصد. بلى إن في الحوار المرتكز على الفضيلة و حسن الطوية كل أوجه المقاصد منه. فالدافع الرئيسي أن يكون لدى جميع أطرافه إصابة الحقيقة، وأن يكون الوصول إلى الصواب والحق، و البعد عن الغضب وأسبابه مع الحرص على الاعتدال حتى ينتهي، و أن يكون لدى كافة أطرافه القدرة على التعبير والمرونة في تجاذباته، وعدم التشنج و الإصغاء للطرف الآخر والاستفادة من طرحه، وكبت جماح النفس عند الرغبة في الجدال. و قديما قالت العرب إن رأس الأدب كله الفهم والتفهم والإصغاء إلى المتكلم، ومن أهم الفوائد التي يستفيد منها المحاور في هذه النقطة اكتساب صفة الحلم على أن فوائد الحوار تمتد إلى غاية تبادل الأفكار بين الناس وتفاعل الخبرات، و المساعدة على تنمية التفكير وصقل شخصية الفرد، و توليد أفكار جديدة، تنشط الذهن، و المساعدة على التخلص من الأفكار الخاطئة و على الوصول إلى الحقيقة .
لا ريب في أن الأسباب الكامنة وراء تعثر الحوار السياسي بمعنييه الأدنى و الأقصى عندنا ، راجعة بالأساس إلى استمرار تأثيرات القوالب المجتمعية المنتمية إلى عصور ولت و التي استعصت على حقبة الاستعمار ـ إن لم يكن على العكس من ذلك هو من أبقاها عمدا قائمة لاستحالة توحد أهلها و التصدي لاحتلاله ـ قوالب صمود إذا في وجه الانتقال إلى الدولة الحديثة و متطلبات قيامها و ديمومتها. لم يستطع ظهور بواكير الأحزاب في عهدة المستعمر و من بعد الحركات السياسية المؤدلجة ثم الأحزاب التي أفرزتها تحولات عصر جديد أن تخرج بالعقول من سجن تلك القوالب إلى دائرة الحداثة و مسايرة ركب التحول البشري. كما أنها لم تستطع بعد عقود من الوجود أن تؤسس لأي نوع من "التقارب الحميد" داخل "الاختلاف البناء" الضروري و هي "السنة المؤكدة" لكل أحزاب الدنيا، تستمد بها القوة و البقاء من بعضها في تناوب يفرزه التنافس المعطاء و الإصرار على الارتقاء. حركات تحولت إلى أحزاب و أحزاب انتهجت نهج الحركات بتعاطيها مع القضايا الوطنية الحساسة في تضييق لافت لآفاق حلها و تجاوز العقد فيها. وضع صعب أشبه ببركة تماسيح في أرض عطشى تقدم لها القرابين لنيل جرعة لا تطفئ الظمأ.
و قد ولد هذا الوضع حالة عارمة من الانقسام الحاد حول كل ثوابت الوطن الناشئ و الوضع على المحك وحدته المحاطة بمخاطر تتطلب بالأساس تماسكا و انسجاما منقطعين. و أما مربط الفرس فيما يثير العجب هو أن النخب السياسية التي أصابت من العمر نصيبا هي التي تشد على حبل النهج الهدام، تدق الإسفين في الجدار الهش الآيل إلى السقوط، و لا تلقن الأجيال الشابة محصلة التجارب التي من المفروض أنها كدستها على خلفية وعي عالمي عاصرت بزوغ فجره في حلك دنيا الإقطاع و الديكتاتوريات المسدل ستاره آنذاك.