يقاس تقدم الشعوب بمستوى تحكمها في صناعة مستقبلها وسيطرتها على مواردها الذاتية ونجاحها في الاعتماد على أبنائها في تسير شؤونها الداخلية، وقد أثبتت التجارب أن طريق تحقيق التنمية وتوفير الرفاه للشعوب يمر حتما عبر بوابة التعليم والتكوين، فالأمم التي تمكنت من تحقيق النجاح في تعليمها التحقت بركب الدول المتقدمة وأخذت مكانها في محيطها الإقليمي والدولي .
وقد ظل إصلاح المنظومة التربوية في موريتانيا يطرح تحديات هيكلية وبنيوية عميقة منذ استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي، فعلى الرغم من صدور الكثير من القوانين والاستراتيجيات المنظمة لقطاع التعليم، ورغم الجهود التي بذلتها الدولة في مختلف الإصلاحات التربوية بدءً بإصلاح 1968-وانتهاء بإصلاح 1999 فإن المنظومة التعليمية الوطنية ظلت تعاني من اختلالات عميقة، عبر عنها رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني عندما أكد في برنامجه الانتخابي “تعهداتي” أن المدخل الرئيس لحل مشاكل البلاد الجوهرية يبدأ بإصلاح منظومتها التربوية.
ولم يكن التعليم العالي في بلادنا والذي بدأ متأخرا نسبيا بالمقارنة مع محيطنا الإقليمي الإفريقي والعربي بعيدا عن هذه العوائق الهيكلية فقد أسست أعرق مؤسساته في ظروف صعبة ودون دراسة جادة تحصنها من الانزلاق في متاهات الارتجالية العمياء، ومع ذلك كله فقد وفر فرصا للتكوين في مجالات متعددة لمجموعة كبيرة من أبناء هذا الوطن.
وقد مر تطور التعليم العالي الوطني بمراحل مفصلية، حيث اقتصر في بدايته على المدرسة العليا للتعليم التي أسندت إليها مهمة تكوين الأساتذة، ثم تطور مع إنشاء مشروع جامعة نواكشوط ليشمل بعض التخصصات النظرية في الآداب والعلوم الإنسانية وفي الاقتصاد والقانون، ثم جاء إنشاء كلية العلوم التقنيات في ظروف لا تختلف كثيرا عن ظروف نشأة أخواتها ليتطور الأمر تحت ضغط الطلب المتزايد على التخصصات العلمية إلى إنشاء كلية للطب ثم جامعة للعلوم والطب والتكنولوجيا، ثم المعهد الجامعي المهني، في محاولة من السلطات العمومية لسد النقص الملاحظ في مؤسسات العليم العالي، ثم دمج بعض هذه المؤسسات في جامعة نواكشوط العصرية، كما تم إنشاء عدة معاهد متخصصة مثل المعهد العالي للمحاسبة وإدارة المؤسسات والمعهد العالي للدراسات التكنولوجية في روصو، والمدرسة العليا متعددة التقنيات التي تشرف عليها وزارتا التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة الدفاع الوطني، هذا من الناحية المؤسسية، أما من حيث المناهج فقد حاول القائمون على التعليم العالي مواكبة التطور في مناهج التكوين من خلال استنساخ مقررات التدريس عند دول نختلف معها كثيرا في الواقع وإن جمعتنا مع بعضها بعض الخصائص المشتركة.
ويعتبر إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي الذي أعلنت عنه السلطات الموريتانية عام 2015 والذي واكبه وأشرف على وضع خطوطه العريضة الوزير الحالي للتعليم العالي والبحث العلمي الدكتور سيدي ولد سالم خطوة مهمة نحو النهوض بهذا القطاع الحيوي الهام والذي يترتب على إصلاحه تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لتنمية البلاد .
ومن خلال إلقاء نظرة فاحصة على الخطوط العريضة لإصلاح 2015 نلاحظ تركيزه على الأبعاد التطبيقية من خلال ربط البرامج الأكاديمية بالواقع المحلي واعتماده على التكوين في المجالات التي يطلبها سوق العمل الوطني.
ومن أجل رفع كل التحديات وأمام النمو المطرد الذي شهده قطاع التعليم العالي والبحث العلمي خلال السنوات الأخيرة تضمنت خطة الإصلاح نقاطا مهمة نذكر منها:
– مراجعة الإطار القانوني والمؤسسي ليتلاءم مع روح الإصلاح وتعزيز هياكل المراقبة والتقييم ،
– تحقيق نسبة تمدرس قريبة من المعايير الدولية في الفئة العمرية ( 20 - 24 سنة) ،
– إرساء معايير للجودة طبقا للمعايير الدولية وتطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص،
– مراجعة عروض التكوين وانجاز قاعدة معطيات حول عروض التكوين وفي مجال القيادة،
– تعويض النقص الحاد في العديد من التخصصات وذلك باستحداث اكتتابات متكررة للمدرسين والأساتذة الباحثين،
– تطوير مدارس الدكتوراه وتقديم الدعم اللازم لتحسين مخرجاتها ،
– ارساء قواعد الحكامة الرشيدة في تسيير الموارد وفي الرقابة على الأداء التربوي وفي مجال الإشراف والتأطير.
ولم تقتصر الاصلاحات على مجال العلوم والتقنيات والطب والتكنولوجيا فقد شهدت كلية الآداب والعلوم الإنسانية وكلية العلوم القانونية والاقتصادية خلال السنوات الأربع المنصرمة تطويرا مهما على مستوى المناهج يأخذ بعين الاعتبار التطورات الاجتماعية المتسارعة التي تجري في العالم من حولنا وإكراهات التطور الصناعي و التقني. وذلك عبر اعتماد مقاربات جديدة للتكوين والبحث وإعطاء الإجابات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية الناجعة التي تؤدي إلي إعداد المواطن الصالح المؤهل لخدمة بلاده بكل جد وإخلاص.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة والتضحيات التي بذلت في سبيل إصلاح المنظومة التربوية لنظام تعليمنا العالي، فإن تحقيق الأهداف المرسومة يظل مرهونًا بمدى تحسين مخرجات النظام التعليمي في المراحل الابتدائية والثانوية الذي ظل ولفترة طويلة يرزح تحت وطأة السياسات التربوية الفاشلة.
و من أجل الإسهام في تحقيق هذا الهدف الكبير أعتقد أنه من الضروري مواصلة الجهد في تحسين الأداء وتطوير الحكامة في تعليمنا الجامعي وذلك من أجل الوصول إلي ترسيخ مفهوم الإدارة الجامعية المتميزة في خصائصها و العلمية في توجهاتها و ذات البعد الإستراتيجي في تعاملها مع الواقع وفي نظرتها إلي المستقبل. متابعة عملية تأسيس ضمان الجودة ونظام الاعتماد على مستوى مختلف الكليات والمعاهد التابعة للجامعة.
ونثمن في ختام هذه العجالة تعيين الرئيس الجديد لجامعة نواكشوط العصرية الدكتور الشيخ سعد بوه كامرا والتعيينات الأخيرة في عمداء الكليات والمعاهد التابعة للجامعة، والتي أظهرت جدية السلطة القائمة في تحقيق الإصلاح المنشود، كما نشد على يد وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتقنيات الإعلام والاتصال الدكتور سيدي ولد سالم ونلتمس منه مواصلة التقدم في طريق الإصلاح من خلال النقاط الأساسية التالية:
العمل على زيادة الاستثمار في رأس المال البشري الذي يمثل الرافعة الأساسية لكل عمل علمي موضوعي جاد ومثمر وبناء.
توسيع التشاور مع الفاعلين في قطاع التعليم العالي من أساتذة وإداريين وعمال.
تعزيز الشراكة بين الجامعة ومختلف القوى الفاعلة في المحيط الاقتصادي والاجتماعي مثل: ( الإتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين،غرفة التجارة والصناعة والزراعة الموريتانية، المؤسسات الصناعية الكبرى في البلد وسائر الهيئات والشركات الخدمية المشغلة.
– تطوير التكوين المهني بواسطة زيادة الشعب المهنية وإنشاء قاعدة بيانات حول الكفاءات المهنية في القطاع الخاص التي يمكن أن تتدخل في إطار تكوينات طلاب هذه الشعب وإيجاد الشراكات اللازمة لدعم تربصات التكوين بالنسبة للطلاب،
تثمين شهادات الماستر والدكتوراه على مستوى سوق التشغيل وذلك بالتركيز على الكيف وليس الكم وعدم التساهل مع اعتماد قبول الطلبة في سلك الدراسات العليا إلا على أساس التميز،
اعتماد سياسة جديدة لمتابعة دمج الخريجين على مستوى سوق العمل تمكن من اختبار نجاعة وفاعلية مخرجات التعليم الجامعي وتسهم في تصحيح وتوجيه مسارات التكوين من أجل مطابقتها مع متطلبات تنمية البلد.
والله ولي التوفيق