تحفل المخطوطات في بلاد شنقيط بوفرة في إجازات العلماء لطلبتهم بعدما لاحظوه عليهم من شدة التحصيل والتدقيق فيه، والذكاء الخارق في الحفظ، ورغبة منهم في تخريج من يقوم مقامهم في زمن ندرة التعلم، وهكذا كان العلماء في أصقاع المدن ببلاد شنقيط، وبخاصة المدن التي شهدت ظهورهم، من أمثال العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في مدينة تجكج، وعلماء المدن القديمة تيشيت وولاتة، وشنقيط ووادان، حيث عاش غالبية علماء البلد وقبل أن ينزاح بعضهم إلى مدن أخرى، ولينتقل الإشعاع العلمي في غير ما مكان، فكان هؤلاء الشيوخ يدرسون طلبتهم، ويصدرونهم في العلوم التي نبغوا فيها وصارت لهم اليد الطولى في تدريسها، فانتشرت الإجازات على يد أولئك العلماء، وصار كل شيخ يجلس للتدريس يعتمد إجازات في العلوم التي يدرسها، وعلى هذا ثمن العلماء تلك الإجازات واحتفظوا بها، ونسخوها لتصل إلى الأجيال اللاحقة، ومن هنا كان علينا ونحن في هذا العصر أن نثمن تلك الإجازات، فهي تراث عميق له دلالاته، وعمقه وأهميته، وانطلاقا من ذلك نعلي من شأن هذه الإجازة التي أصدرها من نعتقد أنه العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي للعلامة التيشيتي حمى الله بن محمد بن حمى الله بن محمد بن الشواف الملقب ب(انبال)، في علمي الأصول والبيان، وهي في غاية الندرة، ويتضح من خلالها الرضى الكبير من العلامة اتجاه المُجاز، ثم كيف رد العلامة التيشيتي بقصيدة جميلة المعاني، موضحة للمقصود، معبرة عن إعجابه بشيخه وبالعلوم التي أجيز فيها، مختتما قصيدته ببيت ذي معنى طريف وهو أن كل من بلغ رفعة في شيء ما، لابد أن يكون عرضة للحسد. ونحن هنا في هذا البعد نثبت هذه الإجازة النادرة للعلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، حيث قال:
هذا وإني أيها الكاتب أجزت حمى الله بن محمد بن حمى الله بن محمد بن الشواف، التيشيتي، في إقراء فني الأصول والبيان، لما علمت من بلوغه فيهما مبلغ ذوي الجد والتحقيق، وغاية التحصيل فيهما، والتدقيق مما يصل وصول أبناء هذا الزمان، لأدنى أدناه، وقلت ما قيل، ولما كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عَسُر على كثير من المتقدمين، أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف، ويشهد لنجابته، وحسن طلعته نظمُه في البيان في أسرع حالة، وأحسن مقالة. وكتبه المجيز عبد الله العلوي، أعلاه الله تعالى، آمين والسلام على من سيقف عليه.
جزاكم الملك المهيمن الصــــــــــــــمد عني بأفضل ما جزى بــــــــــــــــــــه أحد
ولا برحتم تجيزون الســـــــــــــــماة إلى ذرى المكارم حتى ينتهي الصــــــــــعد
يا من متى يتجلى استخفت البلغا ولا يباهيه نحوي ومجتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهد
جدواء أن تكتبوا لي الإجــــــــــازة في علم البيان ليردى من له حســــــــــــــد
وتنظروا في المنظم المــــــــــــــــراد به بالذات تقريب حفظ ما له بــــــــــــــــعد
فزيدُ أَجْلى جَلِي عنه قد سكـــــــــتوا كنكتة ليس ياباها العَلِيُّ الأحـــــــــــــــد
حتى تكونوا على تحقيقه شـــــــهدا وتكتبوا ذاك لي وحبَّذَا السَّنَــــــــــــــــــــــــد
إذا رام أبطال ذا قوم ولم يجــــدوا إلا صفا لهم ما هو مجتــــــــــــــــــــــــــــهد
فقلت ذا ليس محتاجا إلى رتــــب للاجتهاد وأيضا قولهم يــــــــــــــــــــــــــــــــرد
عليه أن قد يجوز الاجتهاد لـــــنا في بعض فن وهذا النص معتمد
إن بني ذا الزمان لم يكن أحــــــد فيهم له رفعة إلا وهم حســــــــــــــــــــدوا
ونضم لتلك الإجازة القيمة، إجازة مثلها للعلامة أحمد المصطفى بن اطوير الجنة الحاجي المتوفى سنة 1262ه، لعالمنا السابق الذكر ولكن في ميادين ثقافية أخرى، لتكتمل الصورة الكاملة لثقافة العلامة (انبال) حيث يقول هو الأخر وسيرا على خطوات شيخه سيدي عبد الله في منهجه الموضح أعلاه حيث قال: " ليعلم من سيقف عليه أني أيها الكاتب أجزت حمى الله بن محمد بن حمى الله بن الشواف، كتاب الكبرى أعني كبرى السنوسي، ومنظومة ابن الطيب في المنطق، ومنظومة سيدي علي الزقاق في القواعد، المسماة بالمنهج المنتخب، وإنما أجزته لما أعلم فيه من الفهم والعلم، وهو مع ذلك والحمد لله ذو فنون عديدة من البيان والأصول والفقه والعربية والمنطق والقواعد، وهو أحب تلامذتنا إلينا وخاصة تلامذتنا، ومع ذلك نرجو له من الترقي في علوم التفسير والحديث، ما هو أعلى من ذلك، لما أعلم من نيته وهمته، أن الله يعين العبد على قدر نيته، ويفتح له على قدر همته. وكتبه لابنه، وخاصة تلامذته، لأربع عشرة بقيت من شعبان عام 1239ه. أحمد المصطفى بن اطوير الجنة. كان الله له ولوالديه ولأشياخه، ولجميع إخوانه، ومحبيه وعامة المسلمين وليا ونصيرا. والسلام على من سيقف عليه من المسلمين".
فهذه إجازة تخلد اسم العلامة حمى الله في فهم مجموعة من العلوم وخاصة علم المنطق، الذي يحتل مكانة سامقة في فهم ودراسة معظم المتون الأخرى، حيث كان علماؤنا يدرسونه دراسة متأنية، وخاصة كتب الإمام السنوسي وغيرها. ويظهر من هذه الإجازة أيضا قوة عارضة ابن اطوير الجنة، وسعة فهمه واطلاعه على ذلك الفن الصعب والذي لا يستغني عنه أي عالم يجلس للدرس والتدريس في بلاد شنقيط.