ليس الاستقلال المجيد مجرد مناسبة نحتفل بها، ولا ذكرى نخلدها فقط، وليس مجرد حدث ننجزه ثم نستريح منه.. بل إن الاستقلال ممارسة يومية وشعور وجداني، وفرصة لا تعوض للمراجعة ومحاسبة الذات، والتفكير الجاد في ما نحن فيه أو سائرون نحوه، فهو أيضا مؤشر مهم يجب اعتماده للتقييم واستشراف المستقبل والتعامل بإيجابية مع التحديات القادمة، لأنه تصور كامل لكل مناحي الحياة الجماعية، فلا معنى للاستقلال إذا لم يكن "بناء تراكميا ومسارا متواصلا"- كما قال فخامة رئيس الجمهورية في خطاب البارحة.
إن بلادنا وهي تحتفي بالذكرى الـستين لعيد الاستقلال، تجد نفسها في تحد تنموي كبير، خاصة في ظل جائحة كورونا كوفيد، الأمر الذي يملي علينا أن نجعل احتفالنا بالاستقلال هذا العام مناسبة لبناء الإجماع الوطني على حصول الكتفاء الذاتي في المواد الضرورية، على نحو يلمسه المواطن ويعيشه، إنه اختبار لمدى قدرة الموريتانيين على ترجمة الاستقلال وحدة وتضامنا وانسجاما...
وهذا يحتاج الى الكثير من الشعور المسؤولية والحس الوطني والوعي العميق بعظم المهمة الملقاة على عواتقنا جميعا. فالاستقلال الحقيقي هو ثمرة الوعي الوطني الحر، ونحن بهذا المعنى بحاجة الى تحيين معنى الاستقلال الى معنى أوسع وأعمق وأكبر ليشمل استقلال الشخصية والعقلية الموريتانية عن الاستعمار ومسبّباته وأهمها: الجهل والتخلّف والتبعية..، فتحرير الأرض مهم لكنه يبقى بلا جدوى إذا لم يرافقه تحرير العقل والفكر والثقافة من كل ترسبات الاستعمار.
وبقدر ما لهذه المناسبة من احترام وإجلال لدى أبناء مجتمعنا الواحد، فإنها تحمل معاني ودلالات تَفرض علينا التوقف عندها، كي لا يُقتصر الاحتفال بهذه المناسبة على الجوانب الرمزية التقليدية فقط، وإنما إعطاء المناسبة القيمة التي تستحقها واستخلاص الدروس التي تُعيننا على رسم مستقبلنا، بهدف استكمال الأهداف الحقيقيّة لأولئك الذين ضحوا بكل غالي ونفيس من أجل إنجاز الاستقلال.
إنه يعني الاختيار الحرّ لتمكين أنفسنا من أداء الواجب، وأخذ الحقوق، والحفاظ على المكتسبات، ويعني أن لدينا حرية في المشاركة ومتابعة الخيارات الشخصية، بقصد التعلم، والنمو، واكتساب الحكمة، مع الاستعداد الكامل لمواجهة النتائج المترتبة على تلك الخيارات، أي جدية السعي الفردي والجماعي لخلق مجتمع تتوفر فيه شروط العدل وقيم المساواة، لأن الاستقلال الحقيقي يعني الاعتراف بأن كل واحد منا لديه الحق في التفكير، ولديه الحق في التعلم، لتقديم أفضل ما عنده لمصلحة ورفاه مجتمعنا.
والحكمة تقتضي أن علينا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تعزيز استقلال بلادنا من خلال تحرير أنفسنا من سجن الفردية وتبني الحقائق الجامعة، وبالتالي تحرير أنفسنا من قيود الخلاف لأن الاستقلال يعني الحرية في فصل أنفسنا عن الأطماع الشخصيّة، وتحدي أنفسنا فكريا لمعرفة النطاق الكامل للواجبات المنوط بنا إنجازها من أجل إيجاد حلول حقيقيّة بالنسبة للحاضر وتخطيط صائب يضمن سلامة المستقبل، وعلى أساس ما فيه خير المجتمع كله.
والدول التي لا تعمّق استقلالها بفيض من المنجزات الصلبة في شتى المجالات، تعرض استقلالها للخطر، وتغامر بإعادة البلاد والعباد للعيش تحت ذل الاحتياج، مع كل ما يعنيه ذلك من احتمالات سلب قيم استقلالها وهويتها ووحدتها.
وإذا ما جاز لنا أن نطرح تحديات عيد الاستقلال، فإن أهمها على الإطلاق يكمن في كسب معركة التنمية والبطالة والفقر والغلاء والبناء من أجل تحقيق دولة المواطنة المنسجمة. وإذا كان كسب مثل هذه التحديات يحتاج إلى موارد اقتصادية قد نلتمس بعض العذر لصنّاع القرار لعدم توفرها بالقدر الذي نحتاجه وفي الوقت الذي نحتاجه، فإن مجابهتها تحتاج إلى إرادة سياسية، وهو ما نلمسه في توجهات قيادة بلدنا الحالية راجين لها التوفيق.
ولعل من محاسن معاني الاستقلال تلك التي تعزز المواطنة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الاستقلال وديمومته دون تحقيق مفهوم المواطنة التي تشكل حاضنة رصينة للهوية ولكي نُعين أنفسنا على استذكار ما ينبغي التوقف عنده من معاني ودلالات الاستقلال، فإن هموم المواطن وأحلامه التي نشترك بها جميعاً، ينبغي أن تكون هاجساً جماعياً في معالجة المشكلات التي نواجهها؛ كالفقر والمساواة والمشاركة، والإنصاف، والعدالة الاجتماعيّة، وغيرها..
فهذه الهموم كانت هي نفسها التي كافح من أجلها مقاومونا لبناء أمة واحدة جامعة مانعة، بهوية حاضنة للمواطنة التي يتساوى فيها الجميع في إطار دولة القانون والمواطنة مهما تعددت أطياف المجتمع عرقيّة كانت أو طائفية.
ومثلما استطاع آباؤنا نيل الاستقلال بجهودهم وتضحياتهم، فإن فرصنا في إحداث تغيير حقيقي تعتمد على ما نستطيع بذله من جهود وتضحيات من أجل تحسين واقعنا وضمان رفاهية مستقبلنا، وما ذلك إلا "استحضارا لمعاني تضحياتهم، وترسيخا للإحساس بالمسؤولية اتجاه الوطن، وتعميقا للوعي باستحقاقه التضحية والوفاء" كما بينه رئيس الجمهورية في خطابه البارحة.
ومثلما حَرصَ أبطال المقاومة الأوائل على ترجمة منظومتنا القيميّة الأصيلة وحفظ الاستقلال الذي نحتفل به اليوم في ذكراه الستين والحمد لله، فإن رسالة هؤلاء العظماء لم تكن محدودة في جهة واحدة من الوطن بل كان فضاؤهم الوطن بكل أرجائه ومكونات شعبه، فلم يُقيدهم الحيز الجغرافي الذي كانوا يتواجدون فيه، بل عملوا من أجل المساواة والعدالة ومجتمع الكفاءة ومحاربة الفساد وإنجاز الحياة الدستوريّة التي تكفل مفهوم المواطنة في كل رحاب الوطن.
وبحكم التزامنا بما بدأه الرواد الأوائل، فإنه من الواجب تأمين الترابط في السياق التاريخي بين الماضي والحاضر والمستقبل، وفي هذا السياق فإن نُخب المجتمع وعلى رأسهم القيادات السياسيّة، تتحمل مسؤولية خاصة في تحقيق ما نقوله، وهو ما يدعونا إلى الاهتمام بوضع معايير واضحة في إسناد المسؤولية على أسس الكفاءة والأمانة والنزاهة، وإن من يقبل تحمّل عبء المسؤولية عليه أن لا يَنظر إلى الموقع وفق ما يوفره له من هيبة أو كسب، بل بقدر ما يقدمه للنّاس من خدمة وتفاعل واستجابة مع حاجات وآلام أبناء المجتمع.
ولعلي أتحدث هنا عن المسؤولية التشاركية التي يشترك فيها جميع أطراف المسؤولية، وأعني بهم أطراف الفضاء الثالث، التي يُشكّل الإنسان محوراً وأساساً لها، ألا وهي القطاع العام والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، وبذلك يكون الإنسان أغلى ما نملك.
لا نختلف بأن هناك مشكلات عديدة تكتنف محاولات القراءة الصحيحة والكلية لمنجز الاستقلال، إلا أن هناك تنبيها مستحبا، أو لنقل ملاحظة ضرورية على المستوى المعرفي، تدعونا لاستثمار التجربة التاريخية بربطها بفكرة المواطنة، وترسيخها برابطة الهوية الجامعة، التي تتضمن تفعيل كل قيم الحرية، والعدل، والإحسان، والإنصاف، وسعة المشاركة، وإحياء روح التكافل، ومنع كل أشكال التمييز، وإعلاء الفضائل، واعتماد النزاهة، ومحاربة الفساد..
لأن هذه هي ذات الشعارات التي نادى بها الآباء والأجداد، الذين أتوا إلينا بالاستقلال، غير أن معانيها تتجدد بتجدد الزمان، وتتطور بتطور الأحوال.
وإذا كان الاستقلال هو عيد الجميع، فلنتخذه مناسبة لتجديد قناعاتنا بما هو مشترك بيننا، وأن نقف معا على حقيقة أن وحدة الأصول الجامعة بيننا قد تأتت من وحدة المشارب التي بها ارتوينا.
(فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) صدق الله العظيم.