في نماذج الفساد التي ساقها وفصلها تفصيلا، فرق ابن خلدون بين ما يكون من الفساد اثرا لاستبداد السلطة، وهو فساد الدولة، وبين ما يكون نتيجة مباشرة لغياب أي سلطة، فهو فساد اللادولة، ويعني الفوضى العارمة التي تسود حياة الناس، كاثر مباشر لانهيار الدولة، أو تكون ممارسة بدائية سائدة، إذا ما تعلق الأمر بسائبة كتلك التي ألفها طويلا، ٱباؤنا وأجدادنا، في هذا المنكب البر خي.
لقد عرف مجتمعنا التاريخي التقليدي، على امتداد تاريخه، وفي سائبته المترامية الأبعاد والاطراف، وعبر أطوار حياته وظروفها القلقة، وريب الزمان، وتبدل حال بحال، عرف مجتمع السائبةحظه ونصيبه من مظالم ومفاسد وقته؛ ونالت تمايزاته المختلفة، عرقية وفئوية وقبلية وطبقية وظيفية، أوفر حظ من ذلك النصيب، وذلك تحت سمع وبصر جميع سلطات المجتمع المرجعية، زمنية ودينية؛
ليس جلدا للذات، او تجاهلا لمحاسن السلف، فلهم إيجابياتها المقدرة، التي سجلها المهتمون، من ذراريهم، بل هو طبيعة المجتمعات البشرية وإكراهات ظروف الحياة، حيث ما نجا، أو قلما نجا تجمع بشري في التاريخ، قط، من بعض تلك الظواهر المصنفة بين المفاسد والمظالم؛ وفي تلك التجمعات، ما حق حق، أو قلما حق حق بإزهاق باطل، وما نال الضحية، او قلما نال فيها إنصافا بالعدل والقسط..
كان السلب والنهب والتسلط، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والاختطاف والاستعباد، وابتزاز المستضعفين، المسالمين، بحد السلاح، أو دعوى "الصلاح"، ابرز المظالم، واكثرها وقوعا وشيوعا؛ وكان للحرب، ظلما عدوانا، مسعروها، وللغارات و"الغزوات" الغادية الرائحة، أبطالها وقعقعة سلاحها؛ وفرضت التجاذبات العنيفة الدامية، لكرسي الإمارة، وعلى زعامة القبيلة، والخلافات حول نظام المكوس والمغارم، والمداراة، نمط حياة خوف دائم؛
ذلك تاريخ سحيق، بلا شك، لكنه، على تقادمه، حاضر بكل ما فيه من ذكريات مؤلمة او مبهجة، من حكايات مطربة أومحزنة، من أوهام المجد وحقائق الماساة، من خطوط وألوان باهتة او فاقعة، من اسطر منيرة بيضاء تتخلل عتمة الصفحات المدلهمة القاتمة؛ إنه بكل ما ذكر، وبغيره مما لم يذكر، تاريخ يعيش الحاضر، بحيث لا يكاد يبرح الخلفية الذهنية للمواطن، وتلافيف عقله الباطن، كمعلم من محددات الشخصية الوطنية؛
.... يتبع....