عشنا نحن الشناقطة ردحا من الزمن في رغد من العيش ، وهناء مسكن ، وجمال منظر،أجل، رغم قلة المؤونة وخصاص العدة والعتاد إلا أن انسجاما فريدا بين الطبيعة والإنسان قد حدث ذات مرة في هذه الربوع .
إذ شكلت مضارب الخيام المتناثرة – كالنجوم – على السفوح والكثبان، وحدات سكنية متناغمة ، وعبر تشكيل الخيمة البنائي نفسه عن وحدة جيومترية متناسقة ومعبرة ، استوعبت بجدارة كل الأنشطة الحياتية الموجودة آنذاك .
وتميزت الخيمة بانصياعها لعمليات التشكل والتموضع تبعا للتغيرات المناخية المنتظرة خلال اليوم أو أثناء تقلب الفصول ، ولا يخفى على من استدعى الذاكرة يوما، مدى نضج الذائقة الفنية التي أولاها الساكنة آنذاك لكل صغيرة وكبيرة، من آداة ، أو أثاث ، أو زخرف أو غيره من متعلق بهذا المسكن الفريد، كل ذالك ضمن أسلوب متفق عليه، يضمن الإنسجام مابين التكوينات الداخلية للمسكن من جهة ، وبينه ومثيلاته من الخيم المجاورة من جهة أخرى .
لقد وفرت مدننا المبنية ، حينئذ ، بحجارة جبالنا ، وطين أرضنا ، وعرق أجدادنا ، ظروفا حياتية ملائمة ، فقد شيدت على أسس راعت الأبعاد الإقتصادية ،والمناخية، والإجتماعية للساكنة آنذاك .
لقد تم تشكل تلك المدن عبر خطط محكمة ، ومعايير سليمة ، منها المستجلب ، والمستلهم ، والمستوحى ، تكاثفت كلها لتبدع تناغما مع بيئة محيطة خلابة ، منها الراسيات الشامخات ، الغرابيب السود، والحمر، والبيض ، والسفوح ، والكثبان والأودية والغدران .
وإن لهذا النوع من الإنسجام – فضلا عن توفيره لحياة مريحة صحية – لتأثيرا على التكوين الشخصي للإنسان ، وذالك معروف ومؤكد عند علماء النفس ، فلا غرو إذا ان رأينا فطاحلة من العلماء ينبغون ، وأسودا بواسل شرفاء يبرزون ، وغدت قيم ومكارم كالكرم ، والسخاء ، والعفة والصدق معيارا للتميز والفضل في مجتمعنا آنذاك .
جأنا ، وجاءوا، وجاء كل من هب ودب ، بعد ذالك ، ليشيد المدن الكبرى حديثا ، وحق لنا ذالك ، فالظروف تستدعي إنشاء مدن بمقاييس أكبر ، بوسعها استيعاب مجمعات سكنية كثيفة ، ومصانع ، وإدارات ، ومدارس ، ومستشفيات ، وغيرها من المكونات الأساسية للتبادل الخدمي و الإقتصادي ذي الجهد العالي .
لكن، في أي مدن أصبحنا نحن ؟ وأي تشكيلات وأقبية تلك التي تشوه واقعنا العمراني ؟ وهل لنا نظم وقوانين معمارية ، أو مدونة عمرانية يجب تطبيقها إن وجدت ؟ هل لنا معايير معمارية عملية ،علمية، يتم الأخذ بها عند البدء في أي مشروع بناء؟ أم أنها فوضى غير خلاقة لا تستند إلى أي مبدء أو أسلوب معماري ؟ هل لنا سياسات رشيدة تسعى إلى توفير السكن اللائق للفئات الهشة ؟
هل الدراسات التي كلفت الدولة أموالا طائلة على مدى عقود ، كانت دراسات حقيقة ، تعتمد على أساليب ونظم معمارية محددة ، أم أنها مجرد مجلدات جوفاء، الغرض منها نهب الثروة الوطنية ،والنتيجة بيئة عمرانية رديئة ؟
هل دفنت الكفاءات الفنية في هذا المجال تحت صحاري الفساد المقترف بأيادي آثمة، جعلت من قيم الرشوة والخداع معيارا للتميز ؟
أليس ذلك خيانة عظمى، ينتج عنها نهب للثروات وتدمير للمقدرات، تحت غطاء من مسرحيات العروض والمناقصات، التى تحمل شعارات ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب؟
يقال بنيت مدرسة، فهل هي مدرسة بنظم معمارية متعارف عليها عالميا، أم أنها علب تصهر فيها أجسام وعقول فلذات أكبادنا ؟
يعلن عن بناء مستشفى، فهل هو كذالك، أم أنه فضاء ينتشر فيه المرض والأوبئة نتيجة لعدم مراعاة النظم، ويقاسي فيه المريض الأمرين ؟
ويقال بناء إداري فهل هو إداري، أم أنه سراديب مظلمة كأنه أريد به طمس ما يقع من جرائم الفساد والرشوة داخله ؟
أما عن عشوائية القرارات في السنوات الأخيرة ، وغياب البرمجة العمرانية والمعمارية ،وغياب إي دراسات حتى ، مما أدى إلى تبديد المال العام والثروات العقارية ، وطحن الكفاءات الوطنية ،فلا أسأل.