موريتانيا وصراع الاستبداد والفساد/ د. حماه الله ولد السالم

منذ المرحلة الانتقالية (2005-2006)، لم تتغير الأمور كثيرا، بل ويظهر وكأن نخبة واحدة عسكرية ـ مدنية تتصارع فيما بينها، وتأجل التغيير الفعلي الذي سيكون رهانا. لم يصدر قانون العزل السياسي لإرغام عصابة الفساد على التقاعد القسري رغم أن غالبية أفرادها هم متقاعدون سياسيًا بالفعل، ومنذ عقود،

لكنهم ينتهزون الفرص، للتذكير بوجودهم وتوجيه الرسائل البائسة إلى "جماعة الاستبداد" الحاكمة لاستدرار عطفها وفتات موائدها. لم تتغير الأمور كثيرًا منذ 8 غشت 2005، رغم أن مياها كثيرا جرت في شوارع نواقشوط وأودية الدواخل. تدل التجربة التاريخية القريبة، على أن ما يجري فعليًا، في موريتانيا اليوم، هو صراع بين ذات الجماعة، بوجهيها: جماعة الاستبداد، وعصابة الفساد، وليس حراكا سياسيا جديا. رغم وجود القيادات الشابة التي قامت بانقلاب 8 يونية الثوري، لكن النتائج لم تكن ربيعا ديمقراطيا، لأن التجربة التاريخية أثبتت أن أسلوب الوصول إلى السلطة يحدد بشكل كبير، فيما بعد، نمط الشرعية السياسية وممارسة السلطة، لكن تلك "الثورة المسروقة"، كان بمكنتها تحقيق قانون العزل السياسي الذي يستطيع الإطاحة بمجتمع سياسي كامل مختلف شكليا ومنسجم في الجوهر، حول المصالح المالية الأنانية. جماعة الاستبداد تشمل أجيالا من رجال الجيش والاستخبارات يشكل "الدولة العميقة" لكنه أكل أعراف الدولة وأجْهز على روحها المدنية الموروثة من "الحزب الواحد" والذي لم يستطع "تمدين" النمط العسكري للإدارة الاستعمارية الموروثة لكنه وفر نمطا سياسيا دولويًا أكثر مرونة. شكّل وصول رئيس المرحلة الانتقالية ضمانة حقيقية لإنقاذ "عصابة الفساد" من قانون العزل السياسي، بل تحدث رئيسها مباشرة في جلسة استجواب صحفي: عليكم ألا تصوتوا عليهم! قال ذلك وهو يعلم يقينا أن موازين القوى والحسابات هي لصالحهم، بعد عقود من نهب المال العام واستعمال أجهزة الدولة والتلاعب بالجبهة الاجتماعية. نكوص النظام (جماعة الاستبداد) عن إصدار قرار العزل السياسي يبدو كما لو كان بسبب الخشية من شيء ما، من عواقب القرار على النظام نفسه، ومن ضعف "التوثيق" الذي يسمح بهكذا قرار حاسم وخطير! القوى الوطنية النظيفة التي تعارض الاستبداد، تنسى أنها أداة في يد دينامو المعارضة وهو "عصابة الفساد"، والتي لا تخفي أجندتها الخاصة. في موريتانيا لم يتغير شيء كبير، فالنخبة السياسية ما تزال تنتج الخُطب ذاتها، مع بهارات وتوابل حرّيفة من السباب والشتائم المقذعة، وحتى البليدة أحيانا، تتطاير من كل الأشداق في كل الاتجاهات وعلى مرأى ومسمع من الشاهد والغائب. الرئيس الحالي شرعي لأنه منتخب من الناس، لكنه ينسى أن ذلك كان بقبول من مُعارضيه، فيصفهم باللاشرعيين واللاوطنيين أو شيئا يشبه تلك الأوصاف، متناسيا أن منطق الشرعية والمشروعية والشرعنة، في الاجتماع السياسي وما يتأسس عليه من حكم وقانون، مترابط وعام يطال الحاكم ومن يحكمهم ومن حكّموهم وتحكموا فيهم. والمعارضون يطالبون برحيل رئيس هم من انتخبوه لا غيرهم، وهم من قبل انقلابه على سلطة شرعية وصفوها بكل النعوت. للحاكم أن يولّي من يشاء أي خطة يشاء، وله أن يدبر سلطانه وفقا للمنطق الذي يريد، لكن الأمور بخواتمها، والسياسات تقاس بنتائجها، أفعالا لا أقوالا. لكن هيبة الدولة تتآكل حين تطل على الناس وجوه أغلبها غير مقنع، لا كفاءة ولا تدبيرا ولا حتى هيئة. الآية مقلوبة في هذه البلاد الطيبة، حيث في البلدان الأخرى المستقلة حديثا، تغيّر شيء ما في سلوك الإدارة تجاه الناس ومعاشهم وأعرافهم في القول والفعل، ولذلك تمهّد لزائر تلك البلدان قبس من النماء والعمران وحتى المزاج العصري. أما في موريتانيا، فالأمور على حالها، وحتى إذا شرع حاكم في تغييرها، فسيكون الأمر شبيها بردْم يأجوج ومأجوج، حيث ما يفتحونه من السدّ يتركونه للغد فيجدونه قد عاد لحالته الأولى قويا صلبا، لأنهم يحاربون قوة المشيئة الربانية الغالبة وهي تمنعهم صرْف الحوْل والقوة إليها، وتلهمهم في ذات الوقت إرادة الخروج للوقت المعلوم. ولذلك بقي السؤال المعلق: هل تغير سلوك الولاة والحكام ومن لف لفهم تجاه مشاكل سكان الدواخل وحرمة أموال الناس وحتى أعراضهم؟ وهل تبدلت صنوف التعاطي السياسي بين الإدارة والناس؟ أليس الثابت الوحيد في تلك العلاقة هو خلق العداء وتكريس الأحقاد ومنع التآخي تعقيد القضايا وتحقير هؤلاء وحصار أولئك؟ أي مستقبل لهذا الشعب، وكل فرد من الناشئة، يرى كل يوم مشاهد بائسة تتغلغل في تلافيف مخه لتستقر في اللاشعور حيث القرار المكين للصور والمعاني التي لها سلطان شديد على النفس والبدن: جموع الناس تساق كالأنعام إلى كل زيارة رسمية، رغبا ورهبا، لتكرر خطب المديح والتزلف والكذب والنميمة، من أجل لحظات تنقضي وتذوب في الزحام، وخطب وسجالات فارغة تبث عبر الأثير لتكريس الجهالة والنميمة ولقتل كل ما هو منطقي وعقلي وسام ونبيل في نفوس الناس. لست من أولئك الذين يعتقدون أن السلطة ـ الدولة في موريتانيا بليدة أو فارغة، بل هي عكس ذلك تمامًا، على الأقل في الخوف من العقل والمنطق والكلمة والرأي، وإن من وجهة أمنية ضيقة. وليس التعليم والتربية والثقافة وحتى الحقل الديني، بمنأى عن الرصد والمتابعة والتضييق والتفكيك والإخضاع للتشييئ والطحن والعزل والعنف الرمزي والمادي. أما من يوصفون بالمتعلمين وهم يقدمون أنفسهم بأسماء أخرى: النخبة، الصفوة، الكوادر، .. فقد رضوا بأن يكونوا مع الخوالف من النمامين والجواسيس والمنافقين واللئام والكذبة قصارى ما يتشوفون إليه هو منصِب أو منصَب يُطبخون فيه أو يُقلوْن (من القلي) أو "يجمّرون"، المهم أن يخرجوا مختلفين عن غيرهم من المحرومين من الإنعام والقرب من ضياء الحاكم، حيث وهج السلطة وضوؤها وإن كان يخبو رويدا رويدا.. موارد الدولة، وهي ضيقة العطن، تخضع لميزان دقيق، مفقود في كل الأمور إلا في صرف العطايا والمناصب والإقطاعات، التي لن ينالها غير المصفقين والنمامين والمتنكرين لكل القيم. إن بلدا ينتفض الحاكمون فيه، قديما وحديثا، كلما سمعوا حقا أو حقيقة، أو دهمتهم خطوب لم يُحْكموا مواردها ولم يعرفوا أصولها، لقمين بأن يوصف بأنه داخل لا محالة في حقل المسارات القلقة، التي لا يمكن معرفة نهايتها ونتائجها. ما يُخْشى منه أن تكون نهاية المطاف ماثلة في بلد يهجره الخاصة ويبقى فيه العامة خدما للشركات الأجنبية، تماما كما في أفلام هوليوود عن غزو العوالم وإنتاج المعادن والفلّزات من المريخ، بجيوش من البشر المستضعفين والمنفيين ممن اتهموا بالجرائم أو تم نفيهم لرفض الذل والمهانة تحت سلطة الأجنبي! إنها فعلا بداية المسارات القلقة، والأكثر خطورة من ذي قبل، قد تؤول إلى انسداد قاتل، أو دورة من الصراعات العنيفة أو المبتذلة، على نحو ما ظلت تعرفه هذه البلاد، بنخبها المدنية والعسكرية، وعادتْ هيْفُ إلى أدْيانِها والله وارث الأرض ومن عليها.

1. يناير 2013 - 22:34

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا