يُعرِّف الباحثُ الأمريكي تشيستر برنارد - مؤسسُ نظرية النظام التعاوني، التي تعتبر من أهم نظريات الفكر التنظيمي، وأكثرها تأثيرا في ميدان الإدارة- منهجَ القيادة القائمة على القيم الأخلاقية، بأنه منهج يبعث على " اتخاذ قرارات شخصية تعاونية من خلال تكوين إيمان بالفهم المشترك، وباحتمالية النجاح، وبالرضى التام عن الدوافع الشخصية، وبتكامل الهدف المشترك".
ومازلت أتعجب من الذين ينقمون على الرئيس الحالي،دماثة خلقه،وكثرة صمته، واستشارته لمعاونيه، والعفو عن خصومه وعدم الزج بهم في غياهب السجون!!
وكأن من شروط القائد عندهم أن يكون فظا غليظ القلب، أو دكتاتورا متجبرا، لكي تجتمع عليه الرعية ويحظى بالتقدير والاحترام!
وهذا لعمري منطق خاطئ تكذبه الأدلة وتنفيه الشواهد!!
فأما الناقمون عليه دماثة الخلق، فالله مدح رسوله بعظيم الخلق، "وإنك لعلى خلق عظيم"
وأما الآخذون عليه كثرة صمته، فقديما قيل : "إذا كان الكلام من فضة، يكون السكوت من ذهب" ، وما أصدق القائل:
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا == لأصبح الصخر مثقالا بدينار
وأما الناقمون عليه استشارته لمعاونيه، فالله أمر نبيه باستشارة صحبه : "وَشاورْهُمْ في الأمْرِ" ومدح المؤمنين بالمشورة، فقال : "وأمرُهم شورَى بينهُم"
وأما الآخذون عليه عفوه عن خصومه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن العفو: "أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عن من ظلمك"
فالكثير من الناس قد بلغ من القسوة مالايمكن معها أن يعفو عن أحد، فلا ترى في حياته إلا الانتقام والتشفي.. تراه يغضبه الجرم الخفي، ولايرضيه العذر الجلي، حتى إنه يرى الذنب وهو أضيق من ظل الرمح، ويعمى عن العذر وهو أوضح من الشمس في رابعة النهار.
فلا ينبغي إذن أن ننقم على الرئيس تربيته الأخلاقية، ومرونته مع هذا الشعب الأبي، الصامد - منذ الاستقلال- على صروف الدهر، وشظف العيش، وتجبر الظلمة الذين لايرقبون في الرعية إلا ولاذمة، ولايفقهون منطق الشورى، كما لايهمهم إشراك الآخر، حتى ولو لم يكن معارضا، حيث أن المعارضة في قاموسهم ذنب يحرم صاحبه حق الاستفادة من ثروات البلد وخيراته!
وإن الطريق الذي انتهجه الرئيس الحالي - منذ تنصيبه - في درء المفاسد، وإخماد نيران الفتنة - التي كادت تعصف بنسيج المجتمع - ودعوته لمعارضيه في المناسبات الرسمية،والمهرجانات الوطنية، وإشراكهم، ودمجهم في مسيرة الإصلاح والبناء، لهو أولى من جلب مصلحة ، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح!
ومع ذلك ، فقد جلب خطاب "عيد الاستقلال" الأخير منافع ملموسة لمعظم أفراد الشعب، كما أن توزيع مبالغ نقدية على 210 آلاف أسرة فقيرة - للاستعانة بها على الظروف الكوفيدية الحالية- خطوة إنسانية تستحق التنويه والإشادة، رغم حاجة المواطنين المطحونين إلى تعميم تلك المساعدات حتى تشملهم جميعا ، دون استثناء.
هذا بالإضافة إلى مبادراته الانسانية النبيلة في الوقوف مع مواطنيه عند المحن والأزمات، والتي كان آخرها وقوفه مع أرملة الرئيس الأسبق المرحوم المختار ولد داداه في محنتها الأخيرة.
فهذا المفهوم السليم للقيادة، وهذا النهج القويم في تدبير شؤون البلد بتؤدة ورفق ، هو مايميز الرئيس ولد الغزواني عن غيره، لأن الرفق " لايكون في شيئ إلا زانه، ولاينزع من شيئ إلا شانه".
أما الذين يوغلون في سطحية مفهوم القيادة، ويقتصرون دلالاتها على العنف والسطوة والتجبر، واحتقار الآخر، فهم بذلك يكرسون الدكتاتورية من حيث لايشعرون، كما أنهم من خدمة الوطن أبعدَ مايكون، حتى ولو استمالوا عواطف الغوغاء الذين لايعلمون شيئا ولايفقهون، فأفكار هؤلاء كثيرا مايشوبها التناقض والاضطراب والسكون.
وقد علمتنا الخطابات المضللة للحكام، والمؤلِّهة لهم - أحيانا- من مختلف النخب (وزراء ، وجهاء، برلمانيون، شعراء...) أن إصلاح سفينة الأخلاق قد يصير أولى من إقلاع المشاريع التنموية العملاقة، خصوصا في مرحلة انحطاط أخلاقي مقيتة، اعتلى فيها المهرجون والمخنثون أرفع المناصب وأعلى المراتب، حتى صار تقديرهم أولى من توشيح بناة الوطن وحماته!
وماتزال قنوات اليوتيوب، وصفحات التواصل الاجتماعي تعج بتلك الخطابات التملقية ، والمعارك "الدونكيشوتية " التي بلغت في السماجة والتطبيل حد الضحك، و" شرُّ البلية مايضحك"!!
"وإنما الأمم الأخلاق مابقيت == فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا"
وكثيرا ماتغني الشعراء على الأخلاق وفضائلها، وما أكثر مااستغلها المتملقون الفارغون من الداخل، فضحكوا بها على ضعفة العقول، وتسلقوا بها على أكتاف الوطن، الذي ماعاد يتحمل المتسلقين ولا المتملقين :
هي الأخلاق تنبت كالنبات == إذا سقيت بماء المكرُمات
وكيف تظن بالأبناء خيرا == إذا نشأوا بحضن السافلات
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى نخب أخلاقية (فكرا، وإدارة، وسياسة، وثقافة...) تكون على مستوى المسؤولية وحجم التطلعات ، حيث تضطلع بالدور المنتظر منها في إرساء قواعد وآداب الديمقراطية وترسيخ أركانها، واجتناب الترغيب في نهج الدكتاتورية الرهيب ونبذ الانفراد بالسلطة ، وأحادية الرأي ، وفي المقابل تشجع الدعوات الصادقة لمتابعة المشاريع التنموية الهامة، ومراقبة المسؤولين عنها، ومحاسبتهم على تسييرهم ، لا على أخلاقهم الفاضلة،و قيمهم النبيلة واحترامهم للآخر.