التجربة اليابانية / البشير ولد عبد الرزاق

كان اليابانيون إذا اضربوا عن العمل، وضعوا على ظهورهم إشعارا بذلك يقول: "نحن مضربون"، ثم زادوا الإنتاج نكاية في رب عملهم، لم تكن بهم حاجة هناك، لا إلى مخابرات ولا إلى هراوات ولا إلى مسيلات دموع، وفرت اليابان ثمن كل تلك الأشياء وأخواتها، في حين بذلنا فيها، نحن العرب، الغالي والنفيس وأبدعنا فيها لدرجة حيرت العالم،

لا أستطيع أن أجزم، بان اليابانيين ما زالوا يحتجون بنفس تلك الطريقة، فالوضع الاقتصادي الباذخ الذي عرفته الشعوب الآسيوية خلال السنوات الأخيرة، جعل أشياء كثيرة تتغير في تلك البلاد الواسعة، في الصين مثلا، أصبحت ظاهرة السمنة مشكلة قومية، ولى زمن القوام الرشيق، أيام بطل الكاراتيه، بروس لي، ورائعتيه: "غضب التنين" و"لعبة الموت"، وصرخاته الحادة، التي تفانى جيل كامل في تقليدها، أمام ملصقات سينما الأجواد والصحراء وغوميز والأنصار والسلام،  

حدث ذلك في نهايات ثمانينات القرن الماضي، كنا في دمشق الفيحاء، في حي (الزاهرة)، غير بعيد عن حي (باب المصلى)، حيث أدى خالد ابن الوليد، صلاة الفجر، يوم فتحت الجيوش الإسلامية المدينة، (جلق الشام)، الحاضرة العتيقة، التي لم تهدأ فيها الحركة، منذ فجر التاريخ،

كنا خمسة طلاب، سادسنا شتاء دمشقي قارس، فاض فيه نهر بردى حتى كادت مياهه تغمر طرقات وسط البلد، واكتسى جبل قاسيون حلة بيضاء تراقصت عليها أضواء المساء، ودفنت الدمشقيات نحورهن داخل معاطف سوداء، حدادا على صباحات مشمسة، مضت دون وداع، واحتلت أغاني السيدة فيروز: "تلج تلج"، "حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتى" و"ورقو الأصفر شهر أيلول"، المرتبة الأولى دون منازع، داخل جميع الميكرو باصات من ماركة "سكانيا" السويدية العتيدة، كان على الست والعندليب وصباح فخري ووردة وميادة ونجاة و"الصبوحه" والآخرين أن ينتظروا جميعهم، قدوم فصل الربيع، روعة السيدة فيروز، تكمن في أنها الوحيدة، التي اتقنت الغناء، في المنطقة الوسطى، ما بين الأحزان والأفراح،

لم يكن ذلك الشتاء القاسي، وحده ما استقبلتنا به الفيحاء، نحن الذين وصلنا متأخرين عن موعد الافتتاح بشهر ونصف، بسبب البيروقراطية الإدارية المقيتة، المعضلة الأخرى، كانت المنهج الدراسي السوري، الذي يعتمد على الحفظ وقوة الذاكرة، كان مقرر السنة الدراسية الواحدة، يتألف من اثني عشر كتابا، بل إن الوضع في كلية الزراعة كان كارثيا، مع أربعة عشر كتابا في السنة، بالتمام والكمال،

زميلنا الحافظ، الطالب في كلية الهندسة الزراعية، رحمه الله (توفي بعد ذلك بسنوات في الولايات المتحدة)، شاب في نهاية العقد الثاني من عمره، قمحي اللون، خفيف الدم، بقامة متوسطة وابتسامة لا تفارق محياه، ينحدر من ثانوية تيارت العريقة، صحبة بكالوريا علوم طبيعية، يروي لك، في لحظة صفاء، كيف اقتلعها من جذورها بشرف وتفوق، أشار علينا الحافظ بتجربة الطريقة اليابانية، قال لنا، إنهم هناك في بلاد الشمس الساطعة، لا ينامون سوى أربع ساعات في اليوم، وأن ذلك هو السبيل الوحيد لخلاصنا وتدارك ما فاتنا من المقرر، لم يجادله أي منا في عدد ساعات نوم اليابانيين، لكن أحدا منا لم يتحمس للأمر، حتى الدكتور عبد الله ولد أميس، الذي كان أكثرنا مواظبة واجتهادا، لم يبد هو الآخر اهتماما بخوض التجربة اليابانية،

في اليوم التالي، أتانا الحافظ من سوق الصالحية، بمنبه صغير أبيض اللون، يحيط به إطار بلاستيكي أحمر جميل، وله رنات عجيبة، تختلف عن رنات المنبه الصيني أبو جرس حديدي، كان واضحا أن "الزلمه" "مصر إصرارا وملح إلحاحا"، على التجربة اليابانية،

وبالفعل دخلت التجربة اليابانية حيز التنفيذ ذلك المساء، فكان النور لا يكاد ينطفئ في غرفة الحافظ، حتى يعود ويشتعل من جديد، بينما اكتظت طاولته بالكتب الحمراء، في جامعة دمشق، كان لكل كلية لون يميز كتبها، والأحمر كان لون كلية الزراعة، مضت الأيام و"الزلمه" منهمك في التجربة اليابانية، لدرجة أن أحد الشباب نبهنا إلى أن شكله بات يشبه أشكال اليابانيين،

ثم ذات صباح باكر حدثت المفاجأة، فعلى غير العادة، لم يكن هناك لا نور ولا أدنى حركة في "الخلية اليابانية"، وحين فتحنا باب الغرفة، لاستطلاع الأمر، كان "الزلمه" يغط في سابع نومة، تحت لحاف دافئ محشو بالصوف، حاكته أنامل دمشقية ماهرة، استمتنا في إيقاظه لكي يدرك دوامه، لكنه ظل يتوسل إلينا: "دعوني، أنا تعبان ومهلوك"، حتى تركناه وحاله، لاحظ الشباب أن المنبه أبو رنات عجيبة، اختفي من فوق المنضدة الصغيرة قرب السرير، سنعرف بعد ذلك، أن الحافظ حجز له مكانا مريحا، بين أشياء مهملة داخل الخزنة،

التجربة التي كان صاحبها سينام أربع ساعات، تحولت إلى أخرى عكسية، ينام صاحبها عشرين ساعة في اليوم، "اليابانيين ما هم بسيطين"، هكذا قال الحافظ، ونحن نتحلق مساء حول إبريق شاي أحمر يغلي بهدوء على مدفأة المازوت، قالها وهو يدق المسمار الأخير، في نعش التجربة اليابانية ويعلنها توبة نصوحا،     

مع مرور الوقت، ستعتاد تلك الأجساد النحيلة، صباحات دمشق الشاتية وثلجها الناعم، والمنهج الدراسي السوري المشحون حتى الرمق الأخير، وستبهر زملاءها من الطلبة السوريين والعرب، بذكائها وثقافتها الرحبة، رحابة الصحراء التي جاءت منها،

رحم الله المهندس الحافظ ولد محمد، وأطال أعمار بقية الشلة، في صحة وسعادة وعافية.

28. ديسمبر 2020 - 19:47

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا