في أحد مقرات الشركة الموريتانية للكهرباء يقف شيخ مسن في طابور طويل تسيطر على وجوه أصحابه الخيبة، والانكسار..، لا يكاد الرجل يواصل الكلام فالعبرات تخنق صوته، فقد بات عاجزا عن سداد الفاتورة منذ تعهد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بخفض أسعار الكهرباء بالنسبة للفئة المشتركة المدرجة في الخانة الاجتماعية، لكن الشركة نقلته في الشهر الموالي لخطاب التعهد الرئاسي إلى الفئة التجارية، ليعيش في ظلام دامس..، ويواجه بكاء أطفاله الحالمين بمشاهدة أفلام أجنبية!!!، بمنزلهم البسيط في حي مركون بعيدا عن الأضواء، في مقاطعة دار النعيم بالعاصمة نواكشوط.
على بعد 65 كلم من عاصمة ولاية الحوض الشرقي تقف سيدة في مقتبل العمر وهي تحاول إخفاء دموعها التي تهاطلت غلبة بعد عجزها عن شراء ما تسد به رمق أبنائها..، فقد أغلق دكان أمل الذي كانت تشتري منه حاجياتها منذ وصل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للحكم، وهي لا تستطيع الشراء من السوق، بسبب الصعود الصاروخي لأسعار المواد الأولية، رغم بيعها لكل ما تملك..، تنظر المرأة بحسرة إلى سيارات رباعية الدفع تحمل شعار تآزر، بداخلها فتية غرباء يتحدثون بلغة جميلة ووعود براقة..، قبل مغادرتهم للمكان مخلفين غبارا كثيفا يملأ أعينا حائرة، وصدورا سليمة من أدران السياسة.
في هذه الأخيرة ما يشغل عن مآسي أولئك البسطاء التي فاقمتها جائحة كورونا..، فالسياسة هي مصدر كل مأساة، هنا في أرض الرمال المتحركة، والجبال الشامخة، والنخيل الباسقات، والذهب، والنحاس، والحديد والسمك، أرض شمامة الخصبة..
أنا أعشق الموسيقى العسكرية وأتمايل طربا على نغماتها، وأشعر بزهو وفخر شديدين عندما أستمع إلى أقدام رجال النخبة في الجيش الموريتاني وهي تضرب في أعماق الصحراء بعيدا جدا عن الأنظار، محدثة ضجيجا يحول جمال الصمت، إلى صخب آسر وفاتن حقا، ذلك الضجيج، يحول الصخب الذي يسكنني بفعل مآسي وطني..، إلى هدوء يشبه تلك السكينة التي كان البابا يوحنا بول الثاني يخلفها في نفوس أتباعه الذين حالفهم الحظ في الحصول على دعواته في حاضرة الفاتيكان.
بعد أيام قليلة يطو الموريتانيون سنة 2020 ومعها يكون الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني قد قضى سنة كاملة متبوعة بخمسة أشهر وهو يتربع على كرسي الرئاسية في القصر الرمادي الذي ما زال الأصدقاء الصينيون يتولون جوانب الصيانة فيه..، وفي المحصلة السياسية ثمة شيء ما تغير بكل تأكيد، هدوء، وسكينة، ولقاءات انفرادية، مع مختلف الفاعلين السياسيين، أخلاق راقية تطبع تعامل القصر مع زواره الجدد، الذين كثيرا ما صدهم..، لكن تلك اللقاءات شبه الموسمية، التي تتقاطع فيها وجهات نظر الرئيس مع زعماء المعارضة التقليدية، تركت تخوفا عميقا في نفوس أغلبيته السياسية، التي اعتادت التحكم في مفاصل الدولة..، ومع كل ذلك يمكنني القول إنها خلفت هدوءا قل نظيره في المشهد السياسي التقليدي في موريتانيا طيلة الفترة المنصرمة..، لكن ذلك الهدوء رافقه صخب سياسي قد يكون أعمق، وأقوى في نفس الرئيس، فقد وضعته الأقدار في مواجهة مع صديقه، ورفيق دربه، وسلفه في الحكم، الرئيس محمد ولد عبد العزيز، قادته إلى تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في تسيير العشرية الماضية..، أجلست اللجنة فاعلين بارزين في المشهد التنفيذي على كرسي التحقيق، وأدت نتائجها إلى إقالة، أو استقالة حكومة الرئيس الأولى، وهو ما يؤكد أن اللجنة ونتائجها خلفت جرحا عميقا داخل المنظومة التنفيذية في موريتانيا، من الصعب أن يندمل في الأفق القريب، فثمة من يعتبر الأمر برمته مجرد خلاف عابر بين صديقين أدارا سدة الحكم في البلد منذ 2005، راح ضحيته أطر موريتانيون لا يخلو أغلبهم من الكفاءة، والتفاني في خدمة نظام الرجلين..، ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن العلاقة بين الصديقين ستعود في شكل يمنح كلا منهما العيش في هدوء، يمكن الرئيس المنتخب من ممارسة صلاحياته كاملة..، ويتيح لسلفه حرية التنقل في بوادي تيرس، وإنشيري الجميلتين، ومعانقة رمال صحراء انبيكت لحواش..، بينما يرى أصحاب وجهة النظر الأخرى أن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة، وأن محاكمة الرئيس السابق أمر لا رجعة عنه، لكن هذا الأمر يتطلب حيادا تاما من السلطة التنفيذية اتجاه الملف، لكي تتمكن السلطة القضائية من القيام بمسؤولياتها كاملة، عبر مساءلة جميع المتورطين في الفساد خلال الفترة المنصرمة، وستكون ضريبة ذلك بالنسبة للنظام قاسية جدا، حد التقاطع مع ضرائب "صونلك" التي خنقت صوت ذلك الشيخ المسن وجعلته يعيش في ظلام دامس..، فالنظام الذي خسر مع نهاية سنته الأولى عددا من وزرائه البارزين، لن يكون بمقدوره خسارة المزيد..، أما إذا تدخلت السلطة التنفيذية في سير الملف، وتمت محاكمة الرئيس السابق وحده، فإن ذلك سيكون بمثابة أجمل هدية سياسية يقدمها الرئيس لرفيق دربه، فحتى لو تم سجنه ومصادرة أمواله الموجودة في الداخل، فإن العيوب ستلاحق المحاكمة، وستعتبر انتقائية..، وسيخلف ذلك تعاطفا محليا، وربما دوليا مع الرجل، ولن يكون بمقدور النظام استرجاع الأموال التي يقول البعض إنها موجودة في الخارج، ويمكن الاستفادة في هذا الملف من تجربة محاكمة نجل الرئيس السنغالي السابق كريم واد.
في السياسة لا توجد مواقف ثابتة، لكن السنة المنصرمة مثلت منعطفا تاريخيا، لم تتحدد زاويته بفعل غياب الرؤية الواضحة على ما يبدو، فرغم الهدوء الذي طبع علاقة النظام مع المعارضة التقليدية، فقد باتت هذه الأخيرة تعبر عن امتعاضها من عدم وفاء الرئيس بالتزاماته التي تعهد بها في الجلسات المغلقة داخل مكتبه الرئاسي، معلنة رغبتها الشديدة في حوار وطني شامل، يناقش مختلف التحديات التي تواجه البلد، هذا الانزعاج الذي بات أطر وقادة المعارضة يعبرون عنه، ينذر بسنة سياسية قد تكون صاخبة..، وربما يجد فيها رئيس الجمهورية نفسه أمام تحالف بين سلفه، إذا استمرت القطيعة، وزعماء المعارضة، التقليدية، ويمكن القول إن حديث أحد قادة المعارضة عن رفضه لإقصاء أي طرف من الحوار..، فيه رسالة ود للرئيس السابق، تدعوه إلى الاستعداد للتحالف وتوحيد الجهود خلال المرحلة القادمة.
مما لا شك فيه أن النخبة السياسية التقليدية منحت الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أفضل هدية، للقيام بعمل جيد..، فقد منحته هدوءا تاما، بل تخندقت وراءه في أوقات عديدة..، وإن كان الحظ كما يقول الفيلسوف الروماني سينيكا في القرن الأول، هو: نتيجة التقاء التهيؤ مع الفرصة المواتية، فقد غاب التهيؤ رغم حضور الفرصة، ولو وجد الرئيس مستشارين مخلصين لنصحوه بتجنب الصدامات السياسية في بداية مأموريته، واستغلال الفرصة، والعمل الصارم، والحازم من أجل خلق نهضة زراعية، واقتصادية، تغير من الواقع المعيشي الصعب للمواطن البسيط، وتعيد التوازن الاقتصادي للبلد، ولأوضحوا له أن مشاكل الدول لا تنتهي، وديونها أمر طبيعي، رغم صعوبتها في بعض الأحيان، لكن ذلك لا يمنع من الاستمرار، والعمل بما هو متوفر من إمكانيات، لتغيير الواقع الصعب الذي تعاني منه البلاد.
بالإضافة إلى حتمية المواجهة مع المعارضة التي قد تتأجل إذا ما رضخ الرئيس لمطالبها السياسية، قد يكون أبرز تحد يواجهه الرئيس في السنة المقبلة، هو التصدع داخل طاقمه التنفيذي، الذي بدأ يخرج للعلن، والذي تتطلب مواجهته صرامة تمنع تفاقمه، وقد يكون فرصة لترتيب البيت الداخلي، حتى يتم الحد من تدخل أشخاص لا علاقة لهم بالحكم في شؤون الدولة، وتوجيه موظفيها.
على رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني أن لا ينظر إلى الظروف الراهنة للبلد، بتلك العين التي كان ينظر بها أيام تواجده في إدارة الأمن، في الفترة الإنتقالية التي أعقبت انقلابهم على الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع، قد تكون التحديات متشابهة رغم الفوارق..، لكن شيئا ما هاما من منظور الكثيرين حصل بالفعل، فقد تم انتخاب محمد ولد الشيخ الغزواني رئيسا للجمهورية، واختار الرئيس المنتخب وزير الداخلية في نفس الفترة مديرا لديوانه، ولا يعني ذلك بالضرورة أن ديون موريتانيا سيتم حذفها، أو أن المانحين سيتسابقون نحو منح مزيد من الأموال للبلد، فثمة متغيرات كبيرة طرأت على مستوى العالم أكثر عمقا، مما يحدث في موريتانيا، قد يكون كورونا، هو أقلها تأثيرا على مجريات الأمور في المنظومة الدولية.
أحمد سالم يب خوي سيدي عبد الله - كاتب صحفي