رغم أن الرحيل قضاء وقدر لا نملك إلا أن نقف أمامهما مطأطئي الرؤوس ، بقلوب ينهشها الألم ، وأعين يستحثها الأسى والحزن لتكشف المستور ، فتذوب النفس لتسح المآقي دموعا كحبات مسبحة انقطع خيطها الناظم ، إلا أنها أيضا ساعات ندم وحسرة حد الضياع ، خاصة في أوقات رحيل الكبار.
الآونة الأخيرة من تاريخ موريتانيا عرفت رحيل قامات كبيرة ، محمد المصطفى ولد بدر الدين ، محمد يحظيه ولد إبريد الليل ، أحمد الوافي رحمهم الله جميعا.
إنه رعيل من نجوم السياسة والفكر وحملة الأقلام ، وإني لأخشى جادا على السياسة أن يكون النور الذي معها في هذه الربوع قد ذهب.
تلك مقدمة سريعة ليست بيت القصيد لكن لا مناص منها ، ولم أجد منها بدا ولا مهربا ، فاعذروني واسمحوا لي أن أسلك هنا مسلكا آخر حول واقع البلد الذي لا يخلو من مرارة وقسوة كان الله في عوننا جميعا.
أكاد أجزم أني في غنى عن القول بأني لست سياسيا مرموقا ، ولا كاتبا لامعا ، ولا من أصحاب اللحى والصلعات ممن أمدهم سحر الزمن بالتجارب ، والحنكة والنضج ، لكني مواطن بسيط يملك فائضا من الطيبة لحب هذا الوطن والإنشغال بهمومه قدر الإمكان ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
إن بلدنا الحبيب موريتانيا في دوامة من التيه منذ الاستقلال ، لقد فشل فشلا ذريعا بقادته ونخبه وساسته وقواه الحية في إرساء سبيل ديمقراطي سلس للتناوب على السلطة ، أو احتكارها كالملكيات المنتشرة في مشرق أرض العرب ومغربها ، وفشل أيضا حتى الآن في عملية التنمية الشاملة ، ونال الإرهاق من الجميع.
إننا لسنا نشازا من بقية شعوب المنطقة ولنا تاريخ لا يستهان به وحضور ثقافي في المحافل الدولية ، وامتدادات في الزمان والمكان ، وقد أتيحت لنا فرص عديدة ، لكنها ضاعت في كل مرة مع الأسف.
لا جدوى من إلقاء اللوم اليوم جزافا على الراحل المختار ولد داداه طيب الله ثراه ، فقد كان رجل دولة بحق كافح في بيئة قاتلة تحت رحمة التسلط الفرنسي لوضع نواة لدولة من لا شيء ، وها نحن اليوم نتنسم هواء بحرها ونهرها وصحاريها المترامية الأطراف ، وننعم فيها بخصوصيتنا الحضارية ، ولولا فخ الصحراء لكان له وللبلد شأن آخر.
القادة العسكريون الذين تحركوا غداة العاشر من يوليو 1978 لإنقاذ ما تبقى من بلد أفلس وتعاورته سهام الأعداء ، وطحنته رحى الحرب طحنا ، كانوا مدفوعين بنداء الواجب ، ومنهم ضباط صفوة لا مثيل لهم في تاريخ البلد ، ومنهم انتهازيون وأباطرة من قوى الظلام والجاسوسية ، وتجار الحرب يصعب قول ذلك لكنها الحقيقة الناطقة بكل أسف.
إن الحركات السياسية الإيديولوجية تتحمل العبء الأكبر عما آل إليه حال البلد ، فقد سمحت للصراعات البينية وأجواء التأزيم والتوتر والشحن التي كانت تخلقها الأنظمة أن تحل محل الثقة والتعاون ، ولن أتهجم على الإيديولوجيا تحت أي ظرف معاذ الله .
لقد ظلت الأنظمة تنشر الإشاعات والأراجيف بين هذه الحركات التي غالبا ما تدخل جراء ذلك في صراعات ومكائد استفادت منها الأنظمة ووظفتها ،فرسخت بقاءها لأطول وقت ممكن بانتهازية وذكاء.
ولِمن لا يعلم فإن الإشاعات عندنا كانت إلى وقت قريب تحدث ارتدادات وهزات في الساحة السياسية يفوق تأثيرها أحيانا ثوران البراكين وانفجارات القنابل النووية.
كمثال على ذلك أوصاف مخادعة تلقى على مسامع العامة يتناقلها المخبرون ، وتجند لها مئات الطوابير لتصبح مع الوقت مسلمات من قبيل:
القومي العربي متعصب حاقد
اليساري ملحد مرتد
الإخواني تكفيري إرهابي
القومي من إخوتنا الزنوج عنصري وقود فتن
إلى غير ذلك من التهم الجزافية والأساطير.
لنعود لرشدنا أرجوكم القوميون العرب اليوم دعاة حريات ومساواة، اليساريون تقدميون ودعاة تكافل اجتماعي ، والإسلاميون في موريتانيا لم نسمع منهم تكفيرا ، ولا مفرقعات ، ولا أحزمة ناسفة ، وبرهنوا على نضجهم في فهم الواقع الموريتاني وخصوصيته.
كذلك إخوتنا الزنوج أغلبهم ليبراليون أحرار ، ولا يمكن وصمهم بالعنصرية ، بقية الطيف المشكل للوحة السياسية إما أحرار أو حزب السلطة .
صحيح أنها توليفة على قدر كبير من التناقض في الفهم وصراع المصالح ، لكن أليست المشتركات أكثر ؟ والجميع وطنيون؟
ألا يعني مستقبل موريتانيا الجميع؟
الحل ممكن والظرف مناسب ، والفرصة المتاحة اليوم قد لا تتكرر.
يتواصل....