تخلل الحكم العسكري - بوجهيه العسكري المحض والمزدوج بين العسكري والمدني - الكثير من المحاكمات السياسية التي طالت جل الطيف السياسي الموريتاني لكن لم يتعرض تيار ما ولا زعيم يقود ذلك التيار لما تعرض له المرحوم محمد يحظيه ولد ابريد الليل هو وصحبه من المنتمين أو المنسوبين الي الفكر البعثي خصوصا إن نحن أخذنا في الاعتبار الفترة الممتدة من العاشر يوليو١٩٧٨ حتى تاريخ الإطاحة بنظام السيد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع سنة ٢٠٠٥، من جهة وأساليب الاستجواب وعدد المحاكمات وتلاحقها ، من جهة أخرى.
لن ادخل في تفاصيل الاتهام الذي وجه أكثر من مرة الى المرحوم ورفاقه فالكل يعرف كيف تعد محاكمات الرأي التي يمكن أن تختزل محطاتها في التالي : (1)أدلة تنتزع بالتعذيب والإكراه انصياعا لهوى أو لأوامر صادرة عن مستبد - ليس بالضرورة مستنيرا- وتقدم إلى قاض لا يملك أدنى حد من الاستقلال في حكمه ولا هو يطمح لذلك (2) ثم تعقد جلسات حكم كثيرا ما تكون في ثكنة شديدة الحراسة ، أو في محكمة حولت إلى ثكنة على أن يكون ذلك (3) بحضور محامين في موقف لا يحسدون عليه : إن تغيبوا يفوتون علي الرأي العام الوطني وعلى ذوي المتهمين فرصة الوقوف على ظروف المعتقلين ومدهم بنصيب من العطف وتزويدهم بأخبار الأهل والطلاع على ما جرى داخل اروقة المحاكم وثكنات الجيش من تلاعب بالقانون وظلم وحيف وذلك لإتاحة فرصة الشهادة عليه محليا ودوليا وإن هم حضروا كان عليهم نصيب لا يستهان به من الوزر لما أعطوا من تزكية لهذه المحاكمات الصورية من خلال ذكر اسمائهم كهيئة دفاع عن المتهمين ليضفي علي الظلم والباطل لبوسا في مواجهة منظمات الدفاع عن حقوق الانسان و حق كل شخص في المحاكمة العادلة .
على كل حال لم توجه للمرحوم في يوم من الايام تهمة تتعلق باختلاس المال العام او بالفساد ولم يذكر عنه أمام هذه المنابر اعتداء على مستضعف أو حتى علي قوي ولم يتجرأ وكيل نيابة فيتهمه بما هو مخل بالشرف.
كان المرحوم يمثل أمام هذه المحاكم وهو يرتدي ثوبا من عزة النفس والإباء والاناة وحتى الأناقة، لا يدخل في مشادة مع ممثل النيابة ولا يستهويه جدل مع قاض عسكري كان او مدني، ينحت من قاموسه السياسي الغني ببطء مقصود او متعود ما يبلغ به حجته أو يقيم به الحجة علي خصمه دون تجريح او تنكر لما هو بديهي أو لما يراه هو من رأي حول تسيير شؤون بلده وحكامته ومصيره.
لم يتطرق قط أثناء هذه الجلسات لما لا صلة له مباشرةً بموريتانيا رغم انتمائه الواضح لتيار سياسي يرى أن الهم العربي مشترك ويرى، خطأ أو صوابا، أن موريتانيا جزء من كل في معاناته ومسراته!
خلال محاكمته في أواخر سنة ١٩٨٣، وكنت حينها محام في بداية التدريب، تبنى أحد رفاقه في النضال من الصف الأمامي خط دفاع خاص به حيث ارتأى أن يركز علي وجود مسافة عقدية تحول بينه وبين اعتناق ادبيات حزب البعث عموما ونظرته للوجود وبالتالي يكون المشار اليه - بالضرورة - من غير المعنيين بالملف القضائي وتتعين براءته ولما سئل المرحوم عن ذلك في مواجهة أمام المحكمة، رد بهدوء ولطف شديدين " فلان أدرى برأيه من غيره الا انني كنت اظنه محسوبا علينا ".
وعند صدور الحكم عليه بالأعمال الشاقة لمدة إحدى عشر سنة (سيستفيد من العفو سنة ١٩٨٥ بعد وصول السيد الرئيس معاوية للحكم) بينما حكم على رفيقه وصديقه الحميم دفال ولد الشين بالسجن خمس سنوات مع وقف التنفيذ -وهو تمييز يضيق المقام عن التعرض له -، احتج دفالي بقوة وصدق وقال امام الملأ " هذا ظلم بواح! محمد يحظيه لم يفعل إلا ما فعلته أنا معه، يجب أن نتساوى في العقوبة " رد هو عليه بطمأنينة " هذا لا يهم يا دفالي ، موريتانيا سجن علينا جميعا أين ما كنا، سواء من هو منا ف يحمل الاعمال الشاقة او من هو محكوم عليه بالسجن مع وقف تنفيذ ".
في مقام آخر، زرته بعد ذلك صحبة المغفور له غالي ولد عبد الحميد رئيس الرابطة الموريتانية لحقوق الانسان وهو أي محمد يحظيه قيد الاعتقال في ثكنة الجريدة في ضاحية نواكشوط الشمالية مع بعض رفاقه للمرة الثانية فسألته هل تعرض لإكراه ما في اشارةٍ واضحة الى التعذيب فرد قائلا: أليس الإكراه، يا أستاذ، سوى جزء من المسطرة رافضا بذا أن يذكر تفاصيل ما تعرض له شخصيا حفاظا على وقاره وحتى لا يعطي قيمة لجلاديه بذكر افعالهم الدنيئة محملا في نفس الوقت المسؤولية لنظام الحكم ككل.
وفي محطة ثالثة قدم أمام محكمة نواكشوط المدنية لتهم سياسة كالمعتاد وذلك بعد أن أصبح اللجوء الي المحاكم العسكرية متجاوزا لدى الجميع، فارغا من المصداقية القضائية لا يتناغم مع الظرف الدولي ويبحث له عن بديل؛ فإذا بقامتين اثنتين من قامات الأدب الموريتاني يحاولان بشتى الوسائل الدخول إلى قاعة المحكمة دعما للمرحوم محمد يحظيه وتعاطفا معه وهما المغفور لهما عملاق الفن الموريتاني المختار ولد الميداح والأستاذ محمدن ولد سيد ابراهيم.
تأملت المشهد فقدرت لهما شهامتهما ونائلهما ووفائهما لشخص يرى فيه النظام الحاكم خصمه اللدود بينما قدرت له هو بعد نظره وسعة صدره وارتباطه بالواقع مما مكنه من أن يجمع بين اعتناق فكر يتصف بالحداثة الشديدة والانشغال بهموم العرب عموما ومستجدات شؤونهم وبالتالي بما هو خارج حدود بلدنا وبين العمل على نسج علاقة وطيدة مع رجلين يمثلان، كل فيما يعنيه، وجها تقليديا بارزا، راسخا في بلادنا.
واخيرا اجتمعت به هو وصديقه دفالي وهما نزيلي سجن بيله بلكصر صبيحة اعتقال الأمريكيين للمرحوم صدام حسين. كان يرى -هو وصاحبه في السجن -الحادث، مع ما فيه من رمزية لهوان العرب وضعفهم، مجرد يوم من ايام حرب طويلة المدى لا هوادة فيها، حرب سجال سيكون النصر فيها لفريقهما وان طالت المعركة.
أما أنا فبقيت منشغلا بإعداد ملف القضية التي سيمثل فيها عن قريب محمد يحظيه ولد ابريد الليل للمرة الرابعة أمام المحكمة بتهمة تتعلق برأيه السياسي ومعتقده الفكري.
الأستاذ يرب ولد احمد صالح