ما إن فاجأت جائحة كورونا مختلف بلدان المعمورة منذ نهاية الفصل الأول من العام الماضي حتى انبرت كل دولة على حدة إلى إعداد وبلورة خطتها لمواجهة الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن هزة كونية غير مسبوقة من حيث قوتها وتزامنها وشموليتها. استطاعت موريتانيا في وقت مبكر من الأزمة صياغة خطة أولية تمكنت فيما بعد من تخفيف وطأة الأزمة خاصة على من هم أكثر تعرضا بحكم هشاشة وضعهم الاقتصادي وذلك من خلال الالغاء المؤقت للرسوم الجمركية المستحقة على توريد بعض السلع الأساسية وتوجيه مساعدات مالية وسلات غذائية للفئات الأكثر فقرا ودعم للمنظومة الصحية باقتناء التجهيزات الطبية والمستلزمات الوقائية من الجائحة والتكفل المؤقت برسوم الكهرباء والماء عن الأسر الفقيرة ودعم الثروة الحيوانية بتوفير الأعلاف والأدوية البيطرية وقد تم تدعيم هذه الاجراءات فيما بعد بدعم نوعي استهدف دعم معاشات المتقاعدين وتوسيع تغطية التأمين الصحي ليشمل 100 ألف أسرة فقيرة تنضاف للمستفيدين سابقا من المنظومة.
غير أن طول وتعقد مسار الجائحة وغياب إشارات مؤكدة حول نهايتها في الأمد القريب (الشهور القادمة) وتعثر الولوج للقاحات، على الأقل حتى الآن، كل ذلك ألقى في مطلع العام الثاني من هذه الأزمة بتحديات قد لا يكون من السهل مواجهتها إلا بكثير من الجد والجهد والتضحية ببعض الأولويات وسأستعرض باقتضاب أهم هذه التحديات (الاقتصادية وليعذرني السياسيون) ملتمسا إثراء النقاش حول سُبل مواجهتها ومعولا على تفاعل صناع القرار بالبلد مع ما يتبين أنه من مستعجلات الحلول.
الأسعار:
تشهد السوق الموريتانية منذ عدة أسابيع زيادة مقلقة لأسعار بعض السلع الأساسية وهي زيادة جاءت في الوقت الخطأ حيث البلاد لا تزال تواجه ظروفا صعبة جراء أزمة صحية عالمية شلت عندنا وعند غيرنا أهم تشكيلات الدورة الاقتصادية وإن بنسب متفاوتة. لكن لماذا ارتفعت الأسعار في السوق الموريتانية؟ للإجابة على هذا السؤال من المهم وضع الأمور في نصابها، فهذه الظاهرة (زيادة الأسعار) تضرب منذ أسابيع بلدان أوربا والجوار الشمالي والجنوبي لبلدنا وسببها الأساس هو التعافي الذي طبع الاقتصاد الأمريكي في الربع الأخير من سنة 2020 ما أدى إلى زيادة غير مسبوقة للصادرات الصينية والآسيوية بشكل عام إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ما شكّل ضغطا على المتاح من حاويات أربعين قدم حيث غلّب المصدرون الصينيون والآسيويون أهمية عدم خسارة حصتهم من السوق الأمريكية المتعافية على وجهات أخرى كإفريقيا وحتى أوربا، طبعا تأخذ هذه الحاويات وقتا ليس بالقليل لتعود فارغة إلى السوق الأصلي وقد شكلت هذه الظاهرة ضغطا كبيرا على انسيابية واردات الكثير من البلدان القادمة من منطقة آسيا (إنه تجل آخر من تجليات كوفيد-19)، ففي بعض دول الجوار الشمالي مثلا ضربت هذه الظاهرة بشكل مضاعف استيرادا وتصديرا حيث فسدت الكثير من الشحنات التي كانت معدة للتصدير بالنسبة لبعض السلع ذات الصلاحية المحدودة والسبب دائما : عدم توفر الحاويات. ألقت هذه الظاهرة أيضا بتبعاتها على السوق الأوربية وطبعا استشعر التجار عندنا هذه الضغوط على سلسلة التموين وكانت ردة فعلهم تلقائية وكأننا لسنا في أزمة تتطلب تضحية من الجميع حتى نعبر بالبلد إلى بر الأمان.
إن من مزايا الأزمة (أي أزمة) إعطاءها المتضرر منها فرصة استخلاص العبر والسعي لتجنب الوقوع ضحية لها مجددا وهنا من المناسب تشجيع الموردين الوطنيين على تنويع مصادر سلعهم بدل الخضوع لسوق وحيدة (السوق الآسيوية) كما أنه من غير المفهوم هذا الإخفاق المستمر للقطاع الخاص الموريتاني في خلق قاعدة صناعية تحويلية خاصة بالنسبة للسلع الغذائية، تماما كما لا يفهم تواصل إخفاق الدولة وأجهزتها الفنية والقطاعية المختصة في انتشال الزراعة من واقعها المتردي وتطوير الشُّعب في قطاع التنمية الحيوانية (اللحوم الحمراء، الألبان ومشتقاتها، الجلود) وأخيرا يصعب أيضا فهم غياب آلية منسقة شفافة وفعالة بين الدولة وممثلي التجار حول الرقابة المؤقتة للأسعار بالأسواق فللأزمة استحقاقاتها ولإدارتها ضروراتها دون أن يمس ذلك من الليبرالية كخيار اقتصادي استراتيجي.
القدرة الشرائية:
يشكل تحدي المحافظة على القدرة الشرائية للمستهلك الموريتاني المنهك عاملا دافعا لضرورة بذل جهود سريعة للضغط على التحدي الأول (الأسعار) والذي يستنزف المحافظ المالية الهزيلة أصلا لغالبية العائلات الموريتانية. وهنا سيكون تخصيص مساعدة إستثنائية بمبلغ 15.000 أوقية غير خاضعة للاقتطاع الضريبي ل 50 ألف موظف عمومي و30 ألف طالب بالجامعة والمعاهد العليا ومدارس الصحة وتكوين المعلمين إجراءً مهما للحد من استنزاف القدرة الشرائية وتسريع وتيرة الطلب وما لذلك من أثر على السوق والاقتصاد ككل وستكلف هذه العملية مليار ومائتي مليون أوقية قديمة (حوالي 3,2 مليون دولار أمريكي) وحين تتكرر العملية ثلاث مرات بالعام الحالي سيظل وقعها بسيطا نسبيا على الانفاق العام من صندوق كورونا (10 مليون دولار ) وسيكون أثرها الاقتصادي مهما جدا فإعانة أي طالب هي في حد ذاتها تخفيف للعبء عن عائلته. سيكون من المناسب أن تشجع الدولة القطاع الخاص لاعتماد نفس الاجراء بالنسبة للعمالة الموظفة في مختلف مهنه. لا ينبغي التحجج هنا بضرورة الحفاظ على توازن الميزانية، فالحل لمثل هذه الأزمات الشاملة العميقة والحادة لا يمكن إلا أن يكون عبر الإنفاق المكثف لمحاصرة آثار الأزمة فحفظ الموجود أولى من طلب المفقود فما بالك إدا كان الموجود يعني أرواحا بشرية لن يعوض خسارتنا لها تعاف منشود للميزانية ثم إنه لا فرق بين من يموت بكورونا ومن يموت بسوء التغذية، تعددت الأسباب والموت واحد.
المديونية الخارجية:
يمثل الدين العمومي للبلاد عبأ ثقيلا حيث يناهز 80٪ من الناتج الداخلي الخام وهو مستوى غير مستديم وقد كانت مقاربة السلطات العمومية موفقة جدا في معالجتها لهذا الإشكال حيث شكلت دعوات فخامة رئيس الجمهورية في مختلف المناسبات والقمم المنعقدة العام الماضي بضرورة اتخاذ مبادرة جدية من قبل الدائنين لفائدة بلدان الساحل الخمسة ولم لا لكل البلدان الافريقية منطلقا مهما لإدارة هذا الملف وربما يدخل انتداب مكتب خبرة دولي للمساعدة والمشورة في هذا الموضوع والذي تم حديثا في سياق مقاربة شمولية لمعالجة ظاهرة مستعصية تكلف البلاد نزيفا سنويا من العملة الصعبة لم يعد ممكنا معه حشد موارد داخلية لتمويل مشاريع الاستثمار العمومي، وبغض النظر عما ستؤول إليه خبرة المكتب المنتدب ودون استباق لنتائج عمله فمن المهم أن نطرح على أنفسنا جملة أسئلة ستمكِّن الإجابة عليها من فهم أكثر لتعقد الموضوع واستعداد بالتالي لرفع التحدي الناجم عنه: متى ينبغي علينا اللجوء للاستدانة؟ كم ينبغي علينا تعبئته من موارد؟ أي مشاريع سنوجه إليها الأغلفة المالية المقترضة؟ أي عائد منتظر للاستثمار في هذه المشاريع؟ وفق أي شروط ينبغي علينا اعتمادها في الاستدانة؟ أي سقف ينبغي علينا تحديده للدين الخارجي؟ أي سياسة لحشد التمويلات الخارجية؟ متى ينبغي علينا التفكير بإنشاء صندوق سيادي موريتاني في أفق إيرادات الغاز إضافة لإيرادات القطاع الاستخراجي الحالي؟ متى سنتمكن من خلق مناخ استثماري جاذب لرأس المال الأجنبي ما سيخفف الضغط على المالية العمومية في مجال الاستثمار في البنى التحتية والصحة والزراعة والنقل؟
لقد استفادت موريتانيا لحد الآن من تأجيل سداد أقساط خدمة الدين المستحقة لسنة 2020 وعموما لا يتعلق الأمر إلا ببداية طريق طويل فلا خيار للبلدان الغنية إلا محو الجزء الأكبر من مديونية البلدان الفقيرة التي تصارع اليوم من أجل البقاء وسط أزمة جائحة كورونا حيث يدرك الدائنون في المحصلة أنه لن يكون هناك مستثمر من البلدان الغنية معني بالاستثمار بين الأنقاض والحاجة لإنقاذ البلدان الفقيرة هي بذلك حاجة للاقتصاد في البلدان الغنية أيضا ولكن هذه الحقيقة لا تعفينا من الإجابة على الأسئلة أعلاه.
الزراعة والصيد:
لا يزال واقع الزراعة والصيد البحري في موريتانيا لغزا محيرا يصعب معه فهم خلفية التردي الذي يطبع هذا القطاع منذ الاستقلال ولغاية يوم الناس هذا وذلك بالرغم من توجيه موارد مالية عمومية هائلة له، وحيث أصبح لزاما التفكير في كسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها هذا القطاع فلا بد من اقتراح حلول مبتكرة للنهوض به وإخراجه من التردي ليساهم في الأمن الغذائي للمجتمع وما سيكون لذلك من أثر على الشغل وخلق الثروة. لا يمكن فهم العزوف الموريتاني عن الزراعة وانعكاساته على مستوى غياب يد عاملة لزرع مئات آلاف الهكتارات الصالحة للزراعة والمروية بموارد مائية كافية ولعل أزمة تموين السوق من الخضروات والفواكه قبل ثلاثة شهور بسبب إشكال أمني استجد في الجوار كانت مدعاة لدق ناقوس الخطر من جديد حول عبثية مواصلة إهمال القطاع الزراعي. وعطفا على ما سبق وللخروج بهذا القطاع من الوحل الذي يتردى فيه فقد يكون مناسبا في مرحلة انتقالية تخصيص آلاف الهكتارات لعناصر الجيش الوطني من غير المشمولين حاليا بمهام تأمين الحدود فللجيوش في زمن السلم دور تنموي ينبغي أن تضطلع به ولن نكون في هذا بدعا من الأمم على أن توفر الدولة المدخلات الزراعية من بذور وأسمدة وعلى أن تتكفل الوزارة الوصية على القطاع بالإرشاد الزراعي والتأطير في مختلف مراحل الحملات ومن شأن هذا الجهد أن يسد حاجة البلاد الظرفية ولكنه أيضا سيمكن من تجاوز العقبة النفسية للموريتاني مع الزراعة، يمكن بعد ذلك أو خلاله اقتراح تفريغ المؤسسات السجنية من نزلاء يدخلونها غالبا بجرائم بسيطة ويخرجون منها عتاة مجرمين وما لذلك من خطر على المجتمع على أن يتم توجيههم نحو الزراعة بالضفة وفق مقاربة تعتمد على تخفيف محكومياتهم مقابل خدمتهم بالزراعة واستفادتهم من جزء من ريع الحقول ( للخبراء القانونيين مهمة الإرشاد حول قابلية تنفيذ هذا المقترح) . كما ينبغي التواصل مع الآلاف من الشباب الباحثين عن الذهب (الوهم) في شمال البلاد وتسهيل توجيههم للزراعة بالضفة عبر منح الأراضي وتأمين تمويل مسبق للحملة الأولى على الأقل وضمان تسويق منتجاتهم.
سيكون أيضا مهما للبلد البحث عن مستثمرين زراعيين أجانب لهم الخبرة الأكيدة ويدخلون بتمويلات كافية في شراكات بين القطاعين العمومي والخصوصي توفر الدولة ضمنها الأراضي والحوافز الجبائية ويوظف الشركاء الأجانب عمالة وطنية ونضمن بموجبها تموين الأسواق من منتجات زراعية موريتانية وتصدير الفائض إلى السوق العالمية.
إن انتشال الزراعة والصيد من براثين البدائية في الوسائل والعشوائية في المقاربة والعبثية في التسيير يتطلب من ضمن أمور أخرى وعلى وجه السرعة خطة إعادة تأهيل عاجل من مكونتين، مكونة استعجالية انتقالية يتم خلالها توفير خطوط تمويل موجهة لوسائل الإنتاج ومكونة استراتيجية تهتم بدمج هذا القطاع في الدورة الاقتصادية وتوطينه من حيث خلق الشغل والقيمة المضافة. إن نحن ضيعنا الزراعة والصيد – وللأسف فقد ضيعناهما- فسنكون لما سواهما من بترول وغاز وحديد وذهب أضيع فالقطاع الأول متجدد وغيره ناضب.
تمويل الاقتصاد:
اتسمت إجراءات السلطة النقدية منذ بداية الأزمة بعدم الحسم والتفرج وهو ما كان له أثر جد محدود لا يكاد يذكر مقارنة بتدخلات نظيراتها في بقية البلدان وخاصة تلك التي لا تختلف عن موريتانيا كثيرا في مستوى التنمية وظلت بموجب ذلك المنظومة المصرفية في بلدنا عاجزة عن لعب دورها في تمويل الاقتصاد مكتفية بالتموقع كشبابيك مالية لمجموعات عائلية بما لا يمت بصلة للأهداف التي من أجلها أنشئت المصارف في منظومة اقتصادية ليبرالية. إن عجز الإشراف المصرفي – وهو مهمة محورية للبنك المركزي- عن تنشيط وتأطير وتوجيه المصارف نحو المزيد من المبادرات لتمويل الاقتصاد قد أحدث فجوة تمويلية هائلة حدت من المبادرات الخصوصية وخلقت ظروفا قاسية للمقاولات المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر. إن القرارات التي نرفض أو نعجز اليوم عن اتخاذها سنجد أنفسنا غدا مكرهين على اتخاذها وبكلفة أكبر فلماذا والحالة هذه نصر على تضييع المزيد من الوقت فقد لا يكون لاقتصاد بحجم اقتصادنا حاجة لأكثر من خمس المصارف العاملة حاليا في البلد وهو ما يطرح ضرورة التعجيل بالاندماج المصرفي سبيلا للرفع من الرسملة وضمانا لملاءة مالية قادرة على مواكبة الاقتصاد وتوفير التمويلات المطلوبة بضخ قروض مكثفة وفق شروط غير مجحفة.
النموذج الاقتصادي الموريتاني:
لا شك أن البنية التوزيعية الحالية لمساهمة القطاعات في تشكل الناتج الداخلي الخام الموريتاني لا تعكس منطقا يمكن لأي لبيب أن يستسيغه فبدل أن تساهم مكونات القطاع الأولي (الزراعة، الصيد والتنمية الحيوانية) بالحصة الأوفر نجد أنها مجتمعة تشارك بنسبة 27 % ويساهم القطاع الثاني (الصناعة والمعادن) بنسبة 30 % في حين يساهم القطاع الثالث (التجارة والخدمات) بنسبة 43 % يحصل هذا في ظل غياب إحصاءات موثوقة عن حجم القطاع غير المصنف والذي يحتل حيزًا لا يمكن تجاهله بحكم أعداد المنخرطين فيه. لقد حان الوقت للتفكير في ورشة إعادة رسم محددات النموذج الاقتصادي الذي يصلح لنا ويتماشى مع حقائقنا الاقتصادية والاجتماعية ويضمن اندماجنا في الدورة الاقتصادية العالمية مع ما يتطلبه ذلك من اعتناء وتثمين للمزايا التفضيلية التي نتمتع بها. إن هذه الدعوة لا ينبغي أن تفهم على أنها نقد لاستراتيجية التنمية الحالية 2016-2030 (وفيها ما ينقد) ولا لخطة النهوض الاقتصادي المعلن عنها قبل أشهر والتي تم تحديد سقف إنجازها بثلاثين شهرا ( والحال أنها كانت حالمة جدا حين لم تتوقع أثر البيروقراطية في التنفيذ ولا معوق نقص الكوادر البشرية المؤهلة ولا الوهن الذي يطبع مختلف مفاصل القطاعات المعنية)، بل إن الأمر يتعلق بضرورة ملحة لم يعد من المسؤولية مواصلة تجاهلها.
وكخلاصة فإن تحديات العام الثاني من كورونا في موريتانيا لا يمكن تجاهلها فهي معطى تراكمي لأزمة لا تزال تضرب بموجاتها المتلاحقة بلادنا ومختلف بلدان العالم ولا معنى أن نفوت فرصة إصلاح المنظومة الاقتصادية والبدء من جديد على أسس أكثر استدامة.