تناولت الحلقة الأولى من هذا المقال بعضا من مسارات البلد منذ الاستقلال ، وإخفاقات الأنظمة المختلفة ، والصراع البيني الذي أقحمت فيه الحركات الإيديولوجية ، زد على ذلك انتهازيتها باللعب على التناقضات ، واستخدام سلاح الإشاعة الفتاك لتشكل به حواجز نفسية وعقدا يكاد يكون تجاوزها اليوم مستحيلا بين المؤدلجين.
أضف إلى كل ذلك عمليات المطاردة ومحاولات الترويض بالسجون والمنافي والترويع والتعذيب ، والتفقير أيضا التي كانت هذه الحركات تقاسيها ، خاصة القادة والكوادر ، فعبر مراحل مختلفة عانى الجميع من الاضطهاد ، وتم الدوس على كرامة الآلاف من المثقفين والنخب بعنجهية مبالغ فيها حد الإفراط ، إنها جرائم قد يسقطها التقادم لكن التاريخ سجلها في رق منشور .
إن طيفنا السياسي المختلف وعلى رأسه الحركات الإيديولوجية بحاجة اليوم إلى بداية جديدة ، توضع فيها الحساسيات المختلفة جانبا من أجل محاولة رأب الصدع بين مكونات الطيف السياسي تمهيدا لحوار وطني شامل تتبناه السلطة القائمة ، وتتم فيه مراعاة تمثيل كافة القوى الحية في البلد دون إقصاء أو تهميش.
إن حوارا وطنيا شاملا تتم فيه المكاشفة ووضع النقاط على الحروف في مصلحة البلد ؛ حوار نتمنى لو تم أن يضمن انتقالا سلسا وسلميا للسلطة إلى المدنيين ولو بعد ثماني سنوات أي التاريخ المفترض لانتهاء المأمورية الثانية للرئيس الحالي ، لا داعي للمثالية الرومانسية ومسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
إن النظام القائم فتح أبوابه أمام الطيف السياسي وكافة القوى الحية ، وتعامل باحترام شديد مع النخبة والقادة السياسيين ، يظهر ذلك من خلال حجم اللقاءات ، والإحتفاء بكل ما يرمز لتاريخ البلد وقادة الفكر فيه والرأي ، علينا أن نختبر جديته وصدق نياته في إحداث تحول إيجابي حاسم في مسار تاريخنا الحديث ، ولا داعي لكثرة الصراخ من النافذة إذا كان الباب مفتوحا في وجهك على مصراعيه.
إن مؤسسة الجيش التي هي المؤسسة الأهم في البلد قديما وحديثا ينبغي أن نبعدها عن التجاذبات السياسية والمعترك الانتخابي ، وأن تُعامل باحترام شديد ، لكن حبذا لو يحدد لها في مخرجات الحوار المرتقب دور إضافي واضح يُسجل في الدستور لتكون الضامن للتناوب السلمي على السلطة ، أما امتيازات قادتها وضباطها ، وحصانتهم أمام المساءلات الكيدية والثأرية فينبغي أن تكون محل إجماع.
إن الجيوش في العالم كله لها مكانتها ، وهي الأساس والضامن للإستقرار ، وأحداث الشغب الأخيرة في الولايات المتحدة الآمريكية قدمت برهانا قطعيا على ذلك ، فاعطوا للجيش من الاحترام نصيبا مفروضا.
أرجوكم جميعا يا نخب موريتانيا قادة ورؤساء أحزاب وقوى مختلفة تنازلوا عن التقليد الأعمى لديمقراطيات العالم وديكتاتورياته أيضا ، حاولوا تقديم نموذجكم الذي يحمل خصوصيتكم ، يكفينا من مثالية هذا النموذج أن ينقذ البلد ومستقبله من مآلات لا تحمد عقباها لا سمح الله.
قد يقول قائل إن الدعوة لبناء الثقة بين التيارات السياسية المتشعبة فكرة طوباوية ، خاصة الإيديولوجية منها ، لنسترشد إذن بتجربة رئاسيات 2003 التي اصطفت فيها كافة القوى من قوميين بمختلف مشاربهم وإسلاميين بقواهم الحية ، ويساريين ومستقلين لمنازلة نظام أفلس حينها ولم تعد لديه ذرة من الكرامة أو الشرعية، ولولا التزوير المشين والقبضة الأمنية الخشنة ، لعكست تجليات ذلك التحالف الرائع صناديق الإقتراع ، لكن النظام يومها كان موغلا في الصبيانية والوقاحة والتهريج.
إنها تجربة تستحق أن تتكرر اليوم لكن بشكل أنضج من ذي قبل ، ولا أعتقد أن الواقع إلا قد تغير كثيرا لمصلحة هذه القوى السياسية التي تتوق للتغيير ، وحريصة على مستقبل موريتانيا الذي هو أمانة في أعناق الجميع.
إن حملات الترهيب الممنهجة التي تجتاح بلدان العالم الثالث قادمة من وراء البحار والخبيثة حقا ، تبشر بنهاية التاريخ منذ عقود ، وفوبيا الإيديولوجيا لن تعمينا عن الواقع الناطق.
لقد راكم الإسلاميون في موريتانيا تجربة كبيرة من التعاطي مع الإشكالات الوطنية ، والممارسة الديمقراطية ، إنهم يدركون خصوصيتهم ، كما يدرك ذلك إخوان مصر ، ونهضة تونس ، وعدالة المغرب والإنسان السوي ابن بيئته ومحيطه.
ما ينقصهم برأيي بناء الثقة مع الشركاء وتجاوز جراح الماضي ، فلا أحد خرج من تلك المعارك دون ندوب ظاهرة أو غائره.
في معسكر آخر نلاحظ تراجع سقف طموح القوميين الموريتانيين عن التماهي مرحليا مع مطلب الوحدة العربية الذي كان ملحا لديهم ، بل إن الدولة القطرية التي كانت منبوذة ويصبون بدلها لدولة الوحدة الأشمل ، بات الحفاظ عليها شغلهم الشاغل ، تجلى ذلك في مواقفهم منذ حرب الصحراء الآثمة وإلى اليوم جيلا بعد جيل.
القوميون العرب بمختلف مشاربهم حبذا لو أرسلوا إشارات واضحة بالانفتاح خاصة على القوميين الزنوج ، إشارات كتلك التي حصلت بعد تجربة السجن المشترك لقادة إفلام والبعثيين نهاية ثمانينات القرن المنصرم.
اليسار الموريتاني بدوره لم يعد كما كان ، وعبر تاريخه طالما اتخذ مواقف ابراغماتية تنم عن فهم للواقع ، وقدرة على التأقلم مع كافة المستجدات ، إنهم –برأيي المتواضع- واقعيون بامتياز.
وكم سأكون ممتنا لو لاحظت منهم مغازلة للقوميين تقرب المسافة وتعطي فرصة للفهم دون رسل أو رسائل.
أظن القوى الوطنية للتغيير (إفلام) وغيرها من القوى لن تكون راديكالية اليوم كما سبق وتم وسمها بذلك في مراحل معينة من تاريخ البلد ، إنها سنة الحياة التي تطارد بديناميتها الثابت ليتحول ، والنسبية التي لا تدع للمسلمات الكثير من الأماكن الشاغرة.
حزب الإتحاد الحاكم وبقية الأحزاب المستقلة عليهم عدم التقليل من شأن هذه القوى الآنفة الذكر التي لها رصيد حققته بالعرق والدم والكفاح السلمي ؛ كفاح تشهد عليه سجون تشيت ..ولاته..بيله..إجريده...
إن وصولك لقمة هرم السلطة يمنحك فرصة لتنظر باحترام إلى الذين ما زالوا في السفح، والسياسة لعبة قيم وذوق رفيع قبل أن تكون صراعا على المصالح.
ختاما سأكون ممتنا لمخاطبة السيد رئيس الجمهوريه المحترم
السيد الرئيس إن الموريتانيين بمختلف مشاربهم يتابعون ويقيمون إيجابا في الغالب أسلوب حكمكم الكيس ، بعد عقود من ضياع البوصلة ، والعنجهية والعنتريات وتصفية الحسابات مع مختلف الأطياف السياسية وأصحاب الرأي .
إن هذا الأسلوب ورصيدكم من حسنات الإنجازات الذي نرجو أن يكون وافرا ، كل ذلك يؤهلكم لدخول التاريخ من بابه الواسع ، وكم سيكون اسمكم خالدا في سجل التاريخ الموريتاني إذا حققتم لموريتانيا انتقالا سلميا مدنيا للسلطة بعد حوار شامل .
وفقكم الله
وحفظ موريتانيا.
يتواصل بحول الله