كنت اعتقد أن عقدة الفساد تكمن في بنية المجتمع الموريتاني، ولكني أدركت أخيرا وأنا أتوب إلى الله من سوء ظني في أبناء "الأرض السائبة" من ذوي جلدتي، فهم أعوان وجيرة للفساد، ولكن بلادي وان جارت علي عزيزة، وأهلي وان ضنوا علي كرام.
ولأن "اليد الواحدة لا تصفق" كما يقولون.. فإن عقدة الفساد تكمن في رأس هذا النظام السلطوي الذي يحاول جاهدا أن يكون نظاما ملكيا مستبدا في صميم قراراته التي أصبح يتخذها لوحده، دون اللجوء إلى استشارة مستشاريه اللذين اتخذهما – في ما يبدو- لملء فراغ وقته فقط، فهم يد الفساد التي يبطش بها وعينيه التي بها يغض طرفه عن أعوانه المفسدين، وزملاءه المتآمرين. فالجمهورية لدينا عالقة بعمقها بـ"بطانة السوء" التي تؤويها جحور القصر الرمادي، من مستشارين وفقهاء للكلمة المذبوحة والرأي الأوحد، فالجواسيس وأصحاب "سر الحرف" وأشباحه يملآن كل سرداب داخل القصر الرئاسي، حيث أصبح ملجأ آمنا وملاذا لخفافيش الظلام التي تعشش فيه من خلايا عسس ومخابرات دولة المخزن العتيقة. كثيرة هي الأسماء اللامعة من المفسدين في محيط القصر الرمادي، الذين أصبح سجلهم لامعا في حلقات أي مسلسل رئاسي لدخول ديوان "الفساد والمفسدين" عبر طريقة انتقاء هؤلاء الحرباويين في تاريخ إدارة رئاسة البلد منذ العهد الطائعي ممن شغلوا مناصبا لطخوها بأياديهم فافسدوا العباد ودمروا البلاد وذروا فيها الفساد. ترى من أين يأتي تحكم ونفوذ سلطة رموز الفساد؟، ومن هم ساسة "بارونات" المجلس الخفي الذي يستمد الأحكام ويصدرها من خلف كواليس السياسة، وعلى أي أساس يتم التلميع لصور أشخاص ليسوا أصلا مؤهلين ولا أكفاء لان يتولوا أمور أنفسهم الشخصية، أحرى بان يتم انتقاءهم في تولية زمرة قيادة إدارة البلاد؟ ولفك طلاسم هذا اللغز المحير وحل مكامن عقده فان موساد مافيا السلطة يقبع داخل نظام المؤسسة الرئاسية الموريتانية، منذ عهد الإطاحة بأول رئيس مدني في البلاد، ومن ثم تشكلت نواة عسكرية تتحكم في مفاصل الدولة، باعتبارها مركز القيادة الخفي بغض النظر عن القائد الافتراضي الذي يمرر مصالح لوبي مفسديه ويقرر معهم تقاسم الكعكة إلى نصفين. فطغت أسماء بعض هذه الحركات العسكرية على مؤسسات الأحزاب السياسية حينئذن، بدء بـ"اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني" وانتهاء بـ"المجلس العسكري للخلاص الوطني" الذي تمتد اذرع أجهزته الأمنية إلى فترة آخر الضباط المعاصرين. هذا اللوبي هو الذي يقوم برعاية إنتاج مسلسل الانقلابات في موريتانيا بالتعاقد أو التعامل مع بعض الخلايا المدنية الثابتة في هندسة التخطيط لأي انقلاب، يدعمه جناح مدني من كبار رجال الأعمال والمتنفذين في البلد. ان تحكم أي نظام رئاسيي أو زعامته بواسطة عرابي مافيا السلطة الذي يتولى التحكم في مصير البلاد والعباد عن طريق الانقلاب على الشرعية الدستورية أمر مرفوض ولا يمكن أن نسميه ديمقراطية ولا عدلا إلا إذا عرفنا "المركز" الحقيقي الذي يقودنا بواسطته هذا "الرئيس الآلة" أو تلك "الملكة تيبه". فمنذ عهدنا بالاستقلال لم تعرف والدتنا شنقيط رئيسا واحدا جاء بمحض إرادته مدفوعا بغريزة حب الوطن و الولاء له، كشيم المخلصين في ايمانهم بحب الوطن، ولم تتعرف على رئيس واحد تزوجها عقب سيرة حب أو عشق عظيم تحدث التاريخ عن نزاهته، أو وطنيا مدفوعا بحب الوطن ليكون مخلصا للعباد من القهر والذل والحرمان، لم نعرف إلا رئيسا غاصبا للوطن مستبدا على شعبه، وخاضعا لولاء خارج طاعة حب الله أو حب الوطن. لم تعرف ماما شنقيط أحدا تقدم لخطبتها إلا إذا كان طامعا في مالها، لا حبا لدينها القراء أو نسبها الأصيل أو تعلقا بجمالها أو عرضها الطاهر، الذي ترى منه بكارة أرضها الخلابة والمعشوشبة بخصب ثرائها الذي يسيل منه طمع ولعاب كل المتآمرين ممن تقدموا لخطبتها حتى الساعة، فتلقبوا بأسماء كانت تناسبهم في الأصل قبل أن يتقدموا لطلب يدها، بعضهم تلقب في حبه المزعوم بمجنون شنقيط، وآخر بالحبيب "المؤتمن"، وآخر بالعاشق "العادل"، والأخير بالمحب "الفقير"،... ولكونهم فقراء، ذو مقة استحوذوا على قلوبنا بعشقهم المزعوم، وخدعوها بقولهم حسناء. إيه يا شنقيط.. لقد اغتصب منك "أصحاب أحذية الجلود السوداء" شرف العز، وعاثوا فيك فسادا ودمروا عروشك خرابا يبابا، بعدما استحوذوا على كامل مقدراتك، وتركوا شعبك عائلا يندب الأطلال. آه يا شنقيط.. من ينصف الرعية من ظلم الراعي من يجيرنا من تغلب الحاكم بما ليس له، متى تتزوجي مرة واحدة زواجا معترفا لا عرفيا لتعطينا "الرئيس النموذج" والأب الشرعي الذي يعدل بين أبنائك؟. متى تتطلقي وتكوني حبا مشاعا بين الجميع وأمة حرة لله لتريحينا ممن يعد انجازات كرم أرضك و سخاء فضلك فينا، كأنه يجود علينا بماله الخاص، "فيحسب" ويحصي كل نفقة أو كسوة على شعبك الفقير، فيبطلها بالمن ويذهب أجرها عنا إلى سواك؟. من رئيس يدعي في شعبه أن عمارة البيت العتيق من فضله، وان السماء والأرض والجبال التي خلقهما الله من صنيعه؟، من رئيس يحصي كل حبة قمح ويمن كل غيمة ماء على شعبه؟ هل رأيتم رئيسا أو ملكا أو سليمان عصره يدعى، ويحصي على شعبه كل انجاز صغير أو كبير جناه من مقدرات الوطن وماله، تفضلا وفضلا منه عليا، فيحسب أنه أنجز الجبال والهضاب والرمال والقباب، ويقول بتشييد العمارات ويدعي تصميم المطارات، وانه أعطى كل غواص أو بناء، ومنح الماء والكهرباء، وصمم هندسة الطرق واختلق برواياته ثامن المعجزات، بل وشهد خلق البلاد شرقا وغربا، ولكنه لن يخرق البلاد في طيها أو السماء في عرضها، مادام الفساد مستشريا في مفاصل الدولة، حتى يأتينا الله بمن يريحنا ممن استأثروا في البلاد وعاثوا فيها الفساد من سدنة عباد القصر الرمادي.