منذ مطلع القرن الواحد والعشرين أدى التنامي المتسارع للطلب الصيني على خام الحديد إلى تحويله لسلعة استراتيجية، كما أن سعيها الحثيث لإيجاد موطئ قدم لها في آلية التسعير كان وراء حرب طاحنة مع الأربعة الكبار أدت إلى أكبر طفرة في الأسعار مع أكبر أزمة انهيار في التاريخ خلال العشرية الماضية، التي تميزت بقفز حجم وارداتها من خام الحديد من حوالي 380 مليون طن سنة 2007 إلى أكثر من مليار طن سنة 2017، وهو ما جعلها تستحوذ على حوالي 73 % من تجارة هذه المادة عبر البحار، وأكثر من نصف الإنتاج العالمي من الصلب العمود الفقري لجميع الصناعات العسكرية، والمدنية التي تعتبر هي قاعدتها عالميا، إذ تستحوذ على حوالي 34% من إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي، والأهم من ذلك كله بالنسبة للصين أن اقتصادها لا يزال يعتمد وبشكل كبير على الاستثمار في البنية التحتية والعقارات القطاعين الأكثر استهلاكا للصلب من أجل الحفاظ على نمو متسارع سنويا.
لكن المشكلة أن اعتماد الصين على الخامات المستوردة كبير جدا يصل إلى أكثر من 80% من حاجتها من بينها أكثر من 60% من أستراليا لوحدها، ولنا في بيانات سنة 2019 خير مثال، حيث استوردت الصين حوالي 1.07 مليار طن من ضمنها 664.57 مليون طن من أستراليا التي أصبحت تتبنى استراتيجية عدائية ضد الصين وصلت إلى درجة المشاركة في محاصرة بحر الصين الجنوبي عسكريا، والتهديد باستخدام خامات الحديد كسلاح.
(1)
استراتيجية الصين لتأمين الخامات
اليوم وفي ظل إجماع الخبراء على أنه بمجرد بلوغ حصة بلد ما 50% من حجم الواردات لهذه المادة فإنه من الصعب الحصول على البديل خلال وقت وجيز في حالة قرر هذا البلد وقف التصدير إلى الصين، مما يشكل تهديدا حقيقيا لصناعة الحديد والصلب العمود الفقري لجميع الصناعات الأخرى، وهذا مابات يطرح مفهوما جديدا ألا وهو أمن خامات الحديد كأحد أبرز التجليات الاستراتيجية والاقتصادية للصين ما بعد جائحة كورونا، حيث يمر السوق العالمي لخامات الحديد بتغيرات دراماتيكية على رأسها الإقبال على رقمنة التجارة العالمية للمادة الخام، و التسوية بالعملة الصينية، وحسب مؤشرها، وقبل أيام أعلنت عن استراتيجتها الجديدة لتأمين وتنويع وتقليل الاعتماد على الخامات المستوردة بشكل عام، وخاصة الأسترالية، حيث يقترح الخبراء خفض حصة أستراليا في السوق الصيني إلى حدود 20%، مما يعني التخلي عن حوالي 300 مليون طن من خاماتها،وذلك تماشيا مع الخطة الخمسية الرابعة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الصينية (2021 -2025)، ورؤية الصين 2035.
هذه الاستراتيجية ترتكز على خمسة محاور على رأسها رفع معدل الاكتفاء الذاتي من الخامات محليا إلى أكثر من 45% ، و رفع الإنتاج المحلي من الحديد الخردة إلى 300 مليون طن سنويا مع رفع نسبة الإعتماد على الخردة في صناعة الصلب إلى حوالي 30%، والمشاركة في تطوير واستغلال على الأقل منجمين كبيرين بقدرة تنافسية عالمية، وذلك عن طريق حقوق الامتياز لاستخراج الحديد خارج الصين على أن تصل نسبة خام المناجم التي تشارك الصين في تطويرها إلى 20% من الخام المستورد ،وكذلك خلق شركات صلب أكثر قدرة على المنافسة في السوق الدولية عن طريق دمج الشركات، والسعي لتحقيق تركيز صناعي للصلب بنسبة 40٪ في الخمسة شركات الأكبر، و 60٪ في أكبر 10 شركات للحديد والصلب، هذا بالإضافة إلى السماح للمستثمرين الأجانب تداول العقود الآجلة لخام الحديد في بورصة داليان للسلع المقومة بالعملة الصينية، وخلق سوق خامات الحديد الورقي الأكبر عالميا.
لا شك أن هذه الخطوات الصينية المتسارعة ستكسبها فرص أكثر للتدخل في حلقات تحديد الأسعار خاصة إذا ما علمنا أنها ستتعزز بإنشاء مخزون احتياطي وطني من خامات الحديد قد يكون الأكبرعالميا، مما قد يكسبها في نهاية المطاف صوتا قويا، وربما السيطرة على آلية تسعير هذه المادة بل الأخطر من ذلك أنها ستنقل الصراع و المنافسة من صراع بينها والأربعة الكبار إلى صراع بين المصدرين كلهم، وهذا ما قد يجعل شركة اسنيم في خطر حقيقي إذا لم تنجح في كسب رهان تحدي التكيف مع المستقبل التنافسي الشرس للسوق العالمي لخامات الحديد.
(2)
الصراع على الموارد عنوان المرحلة
اليوم ورغم السعي إلى تحويل خام الحديد إلى سلاح كالنفط، إلا أننا لا نتوقع حروبا حول المناطق العالمية الغنية به على غرار ما يحدث حول مناطق مصادر الطاقة في العالم، ومع ذلك لا نستبعد خلق المشاكل والمعوقات أمام طموحات الصين في الغرب الإفريقي، التي قد تحولها من أكبر دولة مستوردة للمادة الخام إلى دولة من بين المصدرين الكبار وإن بطريقة غير مباشرة، دولة تستفيد من هبوط الأسعار ومن صعودها أيضا، وربما هذا هو السبب وراء توجيه الاستراتيجيين الصينيين دعوة لحكومة بلادهم أن لا تكتفي بالاستثمار في إفريقيا بفتح مناجم جديدة فقط بل عليها أن تكون مستعدة لحماية تلك المناجم والمصالح حتى أنه هناك من تحدث عن كيفية وماهية تلك الحماية خاصة بعد أن أصبح الجيش الصيني جاهزا لتلك المهام، ومدعوما بنظام عالي الدقة للملاحة الفضائية " بايدو الصيني".
دعوة الاستراتيجيين الصينيين تدق ناقوس الخطر بعودة الصراع بين القوى العظمى، وحتى القوى الصاعدة حول الموارد الإفريقية خاصة موارد الصحراء الكبيرة البكر، ومما سيزيد الطين بلة السياسات المتبعة عالميا من أجل تنشيط الاقتصاد والخروج من الركود الذي سببته جائحة كورونا، والتي تعتمد في غالبها على الاستثمار في البنية التحتية والعقارات، والصناعة، وكذلك العودة المرتقبة للدول الكبرى إلى الصناعات الثقيلة بعد إكتشاف خطورة الاعتماد شبه الكلي على سلاسل التوريد العالمية، وهذا ما سيزيد من الطلب على الموارد خاصة خام الحديد، وقد يكون الاهتمام المتزايد لدى أمريكا، وتركيا بالصحراء الكبرى، وإسراع الجزائر في استغلال منجم غار الجبيلات استباقا لأحداث أكبر ستحصل لاحقا أوعلى الأقل تحويل الصراع المكتوم إلى علني محسوس في المنطقة.
(3)
خيارات موريتانيا المتاحة
رغم تجارب الشراكة السابقة الفاشلة بين بلادنا والصين في مجال استخراج خامات الحديد، والحسابات الاستثمارية الجديدة للصين بعد وجود الهنود في ميناء الصداقة، الذي يعد ثاني أكبر مشروع نفذته الصين في إفريقيا، وكذلك حسابات أخرى جيواستراتيجية نتحفظ على ذكرها، رغم كل ذلك لازالت الخارجية الصينية تنشر على موقعها الرسمي أن احتياطي بلادنا من خامات الحدد يصل إلى 8.7 مليار طن، وهو ما يجعلنا في المرتبة الخامسة عالميا، كما أن الاستراتيجية الصينية الجديدة رغم كونها أوصت بتعزيز التعاون في مجال استخراج خام الحديد مع الدول المجاورة للصين روسيا، وميانمار، وكازاخستان، ومنغوليا، إلا أنها دعت في نفس الوقت إلى الإسراع في إنشاء مناجم ضخمة في الغرب الإفريقي، على رأسها منجم سيماندو في غينيا الذي وافقت حكومة كوناكري منتصف العام الماضي على اتفاق تطويره مع كونسورتيوم تتزعمه الشركات الصينية، بالإضافة إلى المناجم المتعطلة في البرازيل باحتياطي قد يصل إلى 10 مليار طن، والتي دعى سالفاردوالرئيس التنفيذي لشركة Grao Para Multimodal الصين إلى الاستثمار فيها من أجل كسر هيمنة أستراليا بل إن الصين قد شرعت أغسطس الماضي في إنشاء أربعة موانئ جديدة مخصصة لتفريغ خامات الحديد، وقادرة على استقبال السفن الكبيرة بحمولة 400 ألف طن، وذلك لنقص تكلفة النقل من إفريقيا والبرازيل.
لكن طريق الصين للرفع من اعتمادها على إنتاجها الداخلي، وتدوير الخردة واستخدامها كبديل، ووضع اليد على مناجم خارجية ليست مفروشة بالورود ،ومهما يكن من أمر فنحن نعتقد أنه رغم فجوات الاستراتيجية الصينية الجديدة التي يمكن استغلالها لصالحنا إلا أنها تضع بلادنا أمام الخيارات الثلاثة التالية:
الخيار الأول-: الموارد مقابل البنية التحتية
يتمثل هذا الخيار في السعي إلى شراكة حقيقية مع الصين طويلة الأجل، وبشروط موريتانية، فلا يخفى علينا أن زيادة حصة بلادنا في السوق الصيني بل وحتى مضاعفتها عدة مرات هو مطلبا صينيا قبل أن يكون هدفا لنا، والأدلة على ذلك كثيرة يضيق الوقت عن ذكرها. هذه الشراكة يجب أن تضمن حصة في السوق الصيني، وبأسعار مربحة مهما كانت ظروف السوق الدولي، كما يجب أن تؤمن الدعم المادي والتقني لتطوير اسنيم، والرفع من إنتاجها بل أكثر من ذلك يجب أن تكون بوابة لنمط جديد من التعاون عنوانه الموارد مقابل البنية التحتية، على سبيل المثال اكمال سكة الحديد من مدينة شوم حتى مالي أو طريق معبد يربطها بمالي والنيجر، تمهيدا للطريق أمام قطب الشمال للعب دور اقتصادي أكبر بالوصول إلى العمق الساحلي، ليكون انواذيبو العاصمة الاقتصادية ليس فقط لموريتانيا بل لمنطقة الساحل كلها. إن تحويل مدينة انواذيبو إلى منطقة جذب استثماري عالمي، و مصدر تموين إقليمي، هو أقوى خط دفاعي عنها في مواجهة عاتيات الزمن.
الخيارالثاني-: الصناعة التحويلية بدل الاستخراجية
الخيار الثاني، والأكثر فائدة على المدى الطويل هو التخطيط للتحول إلى صناعة مكورات خام الحديد في أفق 2027 من أجل تغذية السوق العربي ثم صناعة حديد البناء من أجل تغذية السوق الإفريقي، والانتقال من الاعتماد الحالي الغير خاضع للاتفاقيات على السوق الصيني، وهو ما بات يعتبر مخاطرة كبيرة خاصة بعد انتهاء صلاحية فكرة اقتصاديا نعتمد على الصين وسياسيا وأمنيا نعتمد على الغرب، وقد نستفيد أيضا من سياسة الصين في محاكاة اليابان بتركيز إنتاج الصلب في شركات محدودة، وهو ما يعني كنس مئات الشركات، وعشرات آلاف العمال المدربين بتحقيق التقدم إلى الأمام نحو الصناعة التحويلية التي تخلق قيمة مضافة أكبر، وفرص عمل أكثر، وإيرادات أفضل خاصة أن الصين تعهدت في إطار منتدى التعاون الصيني العربي، والصيني الإفريقي بالمساهمة في تحقيق التحول الصناعي للعالم العربي وإفريقيا.
الخيارالثالث-: الأسواق الناشئة بدل السوق الصيني
أما الخيار الثالث والأسهل فهو التركيز على الأسواق الناشئة الجديدة للمادة الخام كمصر، وتركيا، ودول الآسيان بدل السوق الصيني، وفي هذه الحالة سيكون على شركة اسنيم وضع خطة محكمة تمكنها من التغلب على التحديات الماثلة أمامها الآن من تحفيز للعمال للعمل بكفاءة وفعالية، وتحقيق تكلفة استخراج منافسة، وإنتاج خامات عالية التركيز والجودة، وكذلك تكلفة نقل عبر البحار منافسة، وسياسية اعلامية منفتحة وبلغات الزبناء و خاصة الجدد، و رقمنة معاملات الشركة إلى غير ذلك من التحديات.
إذا كانت شركة اسنيم قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الخروج من الأزمة التي وقفت ورائها عوامل داخلية أكثر مما هي عوامل خارجية فإن أزمة جديدة أكثر خطورة تنتظرها خلال السنوات القليلة القادمة، والتغلب عليها لن يتم إلا من خلال اعتماد استراتيجية استباقية تركز على الدخول في شراكات دولية تعتمد الخيار الاستراتيجي البنية التحتية مقابل الموارد تحقيقا لمبدأ قيمة موريتانيا الحقيقية في عالم ما بعد كورونا تكمن في موقعها الجغرافي لا في مواردها أو التحول من الاعتماد على الصناعة الاستخراجية إلى الصناعة التحويلية تحقيقا لمبدأ مهام الدول تتغير بتغير موازين القوى عالميا، ولا يخفى على أحد أن العقد الحالي سيشهد لا محالة تحول مركز الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، كما أن مركز الدولة العظمى الأولى على الأقل اقتصاديا سيئول لأول مرة إلى دولة غير غربية، وهذا ما يجب أن يعزز من سعينا إلى الارتقاء بمساهمة بلادنا في تسيج الصناعة العالمي فقد يكون التحول إلى صناعة الصلب ليس مطلبا اقتصاديا واجتماعيا فحسب بل ومطلبا وجوديا.