يمكن أن يتناول التسعير من عدة أبعاد، منها البعد الفقهي الشرعي؛ فقد وردت نصوص في دوواين السنة والأثر، وقفَّتها نقاشاتٌ مستفيضة للفقهاء تُفرد التسعير أحيانا، وأحيانا تناقشه ضمن منظومة استقراء تنتظم معه الاحتكار، ومنع بيع الحاضر للبادي، وغيرها من المنهيات التي قد يصح منها بناء مقصد شرعي عام تتغياه الشريعة الإسلامية يتمثل في كبح جماح الغلاء وتغول الأقوياء المستثمرين على عموم المستهلكين الذين يتشكلون غالبا من الطبقات الفقيرة في المجتمع.
ويمكن كذلك أن يتم تناول التسعير من ناحية البعد الاجتماعي خالصا، ويتجلى ذلك في اعتبار التسعير تغليبا للاستفادة العامة للمجتمع حين يقابلها الإنهاك للمجتمع من طرف ثلة الموردين. ولا يبعد البعد الاقتصادي عن البعد الاجتماعي؛ إذ تتمايز النظم الاقتصادية بين اعتبار مفرط لرأس المال الخصوصي على حساب المجتمع (الرأسمالية) أو اعتبار معاكس يغلب المجتمع على حساب الإنتاج والخصوصية (الاشتراكية) أو توازن يحفظ لكل من القطبين أساسيات ضرورية لا حركة سليمة مستقيمة مستمرة لعجلة الاقتصاد بدونها (النظام الاقتصادي الإسلامي)؛ لذلك تندر الأزمات المالية عند الالتزام بهذا النظام، وهو ما جعل الدول الكبرى تحرص على الاطلاع عليه واستكشافه واعتماده في المجال الاقتصادي، وخاصة بعد الأزمة المالية العالمية التي برزت على إثر الرهن العقاري 2009.
وعلى مستوى السياسة الاقتصادية فإن التسعير يكون ضروريا أحيانا، وخصوصا في مستوى الضرورات الأساسية في المأكل والملبس والمأوى والمركب وما يتبع ذلك من الدواء، وهي الضرورات التكريمية العامة التي أسس الكتاب الحكيم لها بوصفها حقوقا أساسية لمطلق نوع كائن بني آدم بغض النظر عن تصوراته وتصرفاته على العموم: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
وحسنا فعلت الجمهورية الإسلامية الموريتانية ممثلة في وزارة التجارة إذ سعت لتحقيق ذلك في ضرورات المأكل، وعسى أن يتم ضبط ذلك وتطبيقه بما يحفظ للمجتمع ضرورات مأكله بعيدا عن تقلبات الأسعار الداخلية والخارجية، ولقد كان وجود الشركة الموريتانية للإيراد والتصدير عنصرا هاما لوجود هذا الضبط وتطبيقه وحفظه للوطن والمواطن، لكنها للأسف قد وُوجهت بأخرة بما لا تستطيع معه البقاء من أعمال تخريبية حتى لفظت أنفاسها تحت وقع ضربات الفساد الملبس لبوس الأمانة زعما ووهما. ويبقى عمل الجمهورية على بعثها أو استحداث ما يقوم مقامها من الضرورات الهامة جدا في السياسة الاقتصادية للجمهورية والتوازن في الأسعار الذي يترك أثره طيبا على الوطن والمواطن وسكينة المجتمع ورخائه وخاصة الطبقات ضعيفة الدخل من المجتمع ومتوسطته.
ولئن كان التنويه حسنا بما حصل في جانب ضرورات المأكل من طرف الجمهورية ممثلة في وزارة التجارة فإن الوطن والمواطن لا زال بحاجة لنظام في بقية الضرورات الأخرى؛ فليس المأكل - على أهميته - أهم شيء، بل ينبغي ضبط الأسعار في الضرورات الأساسية الأخرى التي تقدم ذكرها، كالملبس ممثلا في غالب الملبوس المستعمل، وكذا الأغطية الضرورية، وكذلك ضبط المأوى تسعيرا للاسمنت والحديد بوصفهما من المواد الأساسية لهذا العنصر الهام، وأيضا ضبط أسعار النقل والتنقل وأسعار المراكب؛ إذ كل ذلك من ضرورات الحياة التي لا غنى عنها كما تقدم، وهذا كله في جانب التحصيل والوقاية، ثم تأتي إجراءات التحصين والعلاج والدواء بوصفها من أهم الضرورات، وبذلك يظهر أن الأمر على العموم لا يقتصر على وزارة التجارة، بل تعنى معها وزارات النقل والصحة والتعليم وغيرها، حتى ليمكن القول إنه برنامج حكومة يتكامل في إطار ما ينبغي أن يكون توجها عاما للجمهورية، ويبقى الفصل منهجا إجرائيا يتغيى حصول أكبر إتقان ممكن بالتخصص.
وعلى الله قصد السبيل.