"تتمثل السوسيولوجيا كم أفهمها في تحويل مشكلات ميتافيزيقية إلى مشكلات قابلة لأن تعالج معالجة علمية وبالتالي سياسية" بيار بورديو.
إن الحاجة الاجتماعية التي تحول الشيء المُسلمِ به والغير قابر للتجسيد والتحقيق هي التي تُولد عالم الاجتماع، كما يريد بورديو أن يفسر لنا من خلال فهمه للسوسيولوجيا، فليس ثمة منطق قد يجعل عالم الاجتماع ينظر للواقع الاجتماعي وكأنه لا يعنيه أو أن ثمة قوى علوية تتحكم فيه دون السعي إلى دراسته وتحويره ومحاولة قولبة مشكلاته إلى مشكلات اجتماعية قابلة للمعالجة وأن يُستفاد منها سياسيا حسب متطلبات الحاجة، وهذه هي الغاية الأولى التي جعلت كونت يعزف على وتر الطبيعة الاجتماعية باحثا عن حلٍ علمي لما يزخرُ به عصره من مشكلات أودت به الجنون، وهي كذلك ذات الغاية التي جعلت دوركايم يحاول الهروب من القبيلة إلى التضامن العضوي الذي تنقسم فيه الأعمال والأدوار حسب الحاجة، فضلا عن كونها وإن بطريقة مختلفة نفس الحاجة التي جعلت مفكري عصر ما يعرف بـ"النهضة" يطرحون ذات التساؤلات وإن كانت البنية التقليدية منعتهم من أن يحاكوا الغرب في معجزات السوسيولوجيا.
قد يقول قائل، ما علاقتنا بموريتانيا بكل ذلك؟، وتجاوزا لكون ما اعتبره "بير بونت" من خلال دراساته المطولة والشيقة للمجتمع الموريتاني، أن الفضاء الاجتماعي الموريتاني لا زال يحتاج إلى الكثير من الدراسات لأنه قابل لاستنباط نظريات اجتماعية قد تساعد في حلّ مُشكل التنمية وتجاوز أزمة التخلف والجهل القيمي، وهو واقع يبدو أن الدولة باتت تعرفه وتحاول وإن بطرق غير علمية تجاوزه أو حله من خلال ما تؤسس من مؤسسات ذات طابع اجتماعي تهدف إلى فهم الحقل الاجتماعي دراسة وتكيفا وترويضا وإن كانت الرؤية المادية الصرفة أساس كل ذلك حسب ما يرون، فإن إهمال الجوانب القيمية والمعرفية وما يمكن أن توصل إليه نتائجها من مسائل غاية في الأهمية لأمر يحتاج أن يُراعى فعلا، لكن ما دعا لكل ذلك؟، ولماذا الآن دون أي وقت سابق؟.
لنحاول الاقتراب أكثر من الواقع الاجتماعي المعيش، دون الغوص لرمزية البناء الاجتماعي أو واقعيته بالمجتمع الموريتاني، ولنقتصر فقط على ذكر جوانب مؤسسية من هذا المجال، أي دور المؤسسة وعلاقتها بالمجتمع، ومن يحق له الفاعلية في مجال معين دون آخر، وتلك غاية تهدف إلى احترام أهل التخصص قبل غيرهم في أي مؤسسة مهما كانت، ثم ماذا يعني أن تؤسس مدرسة للعمل الاجتماعي على غرار قانون أسلاك الشؤون الاجتماعية المصادق عليه يونيو 2019 ، فلا يختلف اثنان من أهل الثقافة أو ينشدانها من الاعتراف أن العمل الاجتماعي جانب من جوانب علم الاجتماع التطبيقية، وهي مسلمة إن لم تجعل التأطير في هذا الصرح الوطني يقتصر عليهم فإنه يجبُ أن يكون مختصي علم الاجتماع أساسهم، ثم إن نظام الأسلاك الاجتماعي يحدد أن مستشار اجتماعي وخبير عمل اجتماعي تكون شهادتها العليا (سلك ثاني، سلك أول) من مختصي العلوم الاجتماعية، والعلوم الاجتماعية لا تحتاج إلى تأويل لأنها تعني علم الاجتماع والأنتربلوجيا والعلوم الخدمية الأخرى، كالعمل الاجتماعي... بينما العلوم الإنسانية تعني مفهومها الواسع لتضم التاريخ والاقتصاد والجغرافيا ... ولو سلمنا بما قيل من أن الوزارة الوصية تبحث عن مختصين قادرين على تشخيص الواقع الاجتماعي ودراسته، فهل يمكن لأهل القانون أن يفعلوا ذلك أو أهل الاقتصاد؟ .
من هنا تأتي غاية السوسيولوجيا في ذات الوقت التي تبرز غاية إخفاء دورها من استمرار المشكلات الاجتماعية، فلا يحتاج البلد إلى قوانين لأن منظومته القانون من أحسن المنظومات القانونية في البلدان، لكن يحتاج إلى من يبحث له عن علاقة تلك القوانين بالواقع الاجتماعي ودرجة التأثير والتأثر بينهما، كما أنه لا يحتاج إلى اقتصاديين لأن النشاط الاقتصادي موجود وقوي فيه، لكن يحتاج لمن يرسم له ويحدد جدوائية النشاط الاجتماعي ومردوديته على الواقع الاجتماعي وغاية التغير والتوجيه التي ينشد، إن غاية البحث في الإنسان وما يواجه من مشكلات اجتماعية وما يؤسس من علاقات في محيطه الاجتماعي الضيق والواسع، وتنشيط فاعليته وتحويرها أمرٌ يستطيع السوسيولوجي فعله إذا ما أتيحت له الفرصة اللازمة، فالهابيتوس بالعودة إلى بير بورديو يتطلب إدراك رمزية بناءه جدلية من هذا القبيل لأجل ترويض الواقع الاجتماعي وتغيره، وخصوصا إذا كان موجود صرحٌ علمي يُخرج عشرات الدفعات سنويا من من هذا اهتمامهم.