اللغة العربية والإمكانات المجهضة / محم ولد الطيب

من كان يتصور أن تهبط اللغة العربية بعد عزها القديم وسيطرتها المطلقة على كافة اللغات التي انحسر مدها الثقافي آنذاك وخفت بريقها مقارنة بها، إلى أن تصير عالة في نظر أبنائها تستجدي نظرة عطف واهتمام؛ وهي التي كانت القالب الرحب  الذي  دارت رحى  إبداعات فكرية خصبة في رحابه!!

.ليس معنى ذلك أننا نريد هنا رفع اللغة العربية إلى ما لا يصل إليه قدرها، ولا ندعي أن لها عصا سحرية  تستخدمها   هي التي تقف وراء تميزها، بل إننا نرى  أن كل تلك الثورية  المتوثبة إلى حد الانفجار  التي اتسمت بها العربية يرجع  لارتباطها  العضوي بمدونات فكرية وروحية تتجاوز حدود الزمان والمكان، من قبيل النص القرآني الخالد، والمدونات الأدبية والشعرية القديمة المتجددة  التي لا تزال تشكل مصدر إلهام لكل من هفت نفسه إلى إتقان  اللغة العربية.

بيد أن هذا الازدهار التاريخي  الذي صار لازمة عند بعض أبناء العربية يرددونها كل ما حزت بها ضائقة أو تعرضت لخطر داهم؛ لاينبغي أن يصير حجابا يخفي عنا  عيوبها  التي تكتنفها، و لا يشغلنا عن التحديات التي تواجهها في الوقت الحاضر، كما يجب ألا تخدعنا فكرة "ديمومة العربية" وانتصارها الموعود بحجة أنها لغة القرآن أولغة أهل الجنة، وأن ذلك كاف لجعلها تبقى بتوهجها المعهود، بل ينبغي-بدل ذلك- أن نكرس جهودنا  للاهتمام بها وتفجير واستثمار الإمكانات التي تختزنها ، و أن ننبذ التواني والتكاسل عن خدمتها، إذ لا قوة للغة إلا بقوة أهلها.

غير أنه لابد لنا  لتحقيق هذا الهدف أن نعرف بادئ ذي بدء  الأسباب الكبرى التي تقف وراء هذا  الإهمال الذي بات يعتبر علامة على سلوك بعض أبناء  العربية تجاهها؛ تلك الأسباب التي ترجع في نظرنا إلى سببين رئيسيين : تاريخي وإبستمولوجي بنيوي؛ يتمثل الأول في سلسلة  النكسات التي تعرضت لها الأمة العربية ؛ تلك التي كان آخرها الاستعمار الغربي المعاصر الذي فرض لغاته على الكثير من البلدان العريية، وللأسف تلقف البعض هذه اللغات بالتقديس على حساب لغته وهو ما انعكس سلبا على لغة الضاد؛ حدث ذلك تحت ذريعة حجج واهية من قبيل عجز اللغة العربية وقصورها عن التعبير عن تطلعات العالم المعاصر واهتماماته العلمية والتقنية.

أما السبب الثاني  فيتمثل في انغماس العرب في مستنقع العاميات والمبالغة في استخدامها  بل وتقديمها على اللغة العربية في كل شاردة و واردة، وكأن اللغة العربية لايمكنها أن تضطلع بالأدوار المنوطة بها على الوجه الأكمل بمعزل عن العامية أو اللغات الأجنبية؛ وهو ما نفاه العارف بها الشاعر حافظ إبراهيم على لسانها حين قال:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن..... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي.

قد يقول لي قائل إنه كانت هناك نهضة فكرية أدبية  إبان  القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين  كان هدفها الأساس هو انتشال اللغة العربية  من أوحال الوهن والضعف  والعودة بها إلى مسرح الفاعلية والتأثير من جديد بعد ترد طويل في غايابات الانحطاط ، فإنني أقول إن مشكلة تلك النهضة  أنها لم تستمر رغم فضلها الكبير على إحياء اللغة العربية، ونظرا لقصورنا نحن عن الاستفادة من نتائجها الهامة؛ وهو ما جعلنا عاجزين حتى الآن عن تحديد الخلل المركزي الذي يعتبر  مكمنا تتفرع منه كل الأخطار التي أصابت اللغة العربية، ليتسنى لنا حينئذ استثمار الإمكانات الهائلة التي تنطوي عليها .

بيد أن هذه الإمكانات التي تختزنها العربية  لا يمكن استغلالها  إلا بعد إلمام عميق بتفاصيل الأسباب التي قلنا سلفا إنها سبب لفتور لغة الضاد؛  فأول  ما يتهدد العربية هو عزوف أبنائها عن التحدث بها  واعتبار  كل من يتحدث بها غريب الأطوار، فلو تأملنا هذا الأمر لوجدناه عامل تقويض مباشر لدعائم اللغة العربية، فاللغة لا تزدهر إلا بمقدار قوة تأثير أصحابها؛ وهذا التأثير هو الحلقة المفقودة ، ولا أرى من سبيل لاستعادته إلا من خلال النقاط التالية:

- زوال عقدة النقص عن  الإنسان العربي الذي لا يجد  لذة في التحدث بلغته الأم، ولا هم له  غير لغة الغير.

-العودة إلى دراسة النصوص التي تؤسس للغة العربية من قبيل النص القرآني، والأشعار الجاهلية لما لها من قيمة لغوية عظيمة.

-اعتماد اللغة العربية في شتى المجالات الحيوية والابتعاد عن استخدام العاميات في كل شأن ذي بال؛ لأن  إقحام هذه الأخيرة  في كل مجال  يعتبر عامل تقويض مباشر  للغة الضاد في نظرنا، وعاملا مساهما في توسيع الشقة بيننا والعربية الفصحى،  ولا سيما إذا علمنا أن هذه العاميات -كما هو معروف- ليس في مقدورها أن تفي بمهمة التواصل العادي أحرى أن تحمل في طياتها علما أو أدبا يرقى إلى حدود العالمية، كما أنها عامل فرقة ثقافية بين العرب نظرا لتباين عاميات البلدان العربية، فلو أن العرب استخدموا لغة مشتركة  في شتى المجالات الحيوية لكان ذلك استثمارا جيدا وعقلانيا لإمكانات لغتهم الدفينة التي لا تنفك تظهر من حين لآخر.

-تفعيل دور مراكز اللغة والتعريب وتعميق التواصل بينها ودعمها لتواصل عملها المتمثل في تطوير اللغة  وجعلها دوما معاصرة متجددة، يضاف إلى ذلك ضرورة تشجيع الإبداعات الأدبية والعلمية باللغة العربية وإسناد مهمة تقييم كل ما يتعلق بالعربية  إلى المختصين فيها حصرا  لا إلى الجرائد والمجلات أو آراء الجمهور الذي تحكمه بطبعه العاطفة.

وعلى العموم يمكننا أن نقول إن اللغة العربية لغة خصبة وقابلة لاستيعاب الكثير من الأنشطة البشرية إذا ما أدرك أبناؤها ما تتميز به من عمق واتساع لم يتأت للغة من اللغات الحية.

 

25. يناير 2021 - 23:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا