في المقالين السابقين اللذين كتبناهما لتوجيه حوارسياسي دعا اليه رئيس الحزب الحاكم بايعاز من فخامة الرئيس محمد ولد غزواني، وقد تساءلنا في المقال الاول عن مقدرة المتحاورين على وضع النظام السياسي على السكة الصحيحة، بينما في المقال الأخير اشرنا في نهايته الى ضرورة ايجاد نظرية للحوار من اجل ان توجه بوصلة المتحاورين، علما أننا اجتهدنا في تقديم مبادئ عامة يمكن ان تكون محل اجماع وطني كقواسم مشتركة لأصحاب الاتجاهات الفكرية لتعديل النظام الجمهوري حتى يتم تطويره ليستجيب لخيارات المجتمع الموريتاني،،ومنها الاجماع على الوحدة الوطنية، ومكوناتها من فئات اجتماعية، واعراق إثنية باعتبارها حاصل النسيج الاجتماعي الموحد منذ الحكم الملكي في مملكة " غانا" قبل عشرين قرنا على بداية التاريخ المسيحي، حيث أن ملكها كان اسمر البشرة في اشارة من المؤرخين الى التوافق بين الإثنيتين اللتين، ربما كانت احداهما تمثل الاكثرية حينئذ، ولذلك كان منها الملك، بينما كان الوزراء بيض البشرة، وذلك في اشارة الى المجتمع العربي في بلادنا، وتفاعله مع النظام السياسي لحكم المملكة،،
اما الشروط التي ذكٌرنا بها المتحاورين، فهي غير تعجيزية اطلاقا، بل تقدم اقتراحات عملية لتطوير بنية النظام السياسي بما يشكل اجماعا وطنيا،،ومنها الغايات المنشودة، فيمكن تحديدها منهجيا وعمليا كتقديم الأولويات التمهيدية على الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى،،
وفي ختام المقال الثاني اوضحنا في اشارة عابرة الى أن السياسة في الفكرالسياسي المعاصر، هي من ناتج التفكير الموضوعي، والنسبي، القابل للبحث الاجرائي، ولتوظيف الاجماع الموحد للميول، والاتجاهات، والمواقف، والعمل الأدائي، الأمر الذي يساعد على فهمهه، ومن ثم توجيه التصورات الذهنية، والرؤى، والأداء السياسي، واستخلاصها من الأقيسة الاحصائية في البحوث الميدانية،،ومن هنا يمكن تجاوز تعريف السياسة من كونها " فن الممكن"، فهذا التعريف قاصر، وحقله الفكري غير قيمي، ثقافيا، واخلاقيا، ومبدئيا، لأنه يركز على مضمون " فن الممكن": ويقصد به السلوك العملي الذي يراوغ اصاحبه من اجل تحقيق مطالبهم ولو جزئيا بغض النظرعن شرف الوسائل خلقيا، اومشروعيتها ضبطيا بما قد يخالف منظومة القوانين الإلزامة ،، وامكان التنازل عن بعض الحقوق مقابل تحقيق "جزئية" منها، أمر قائم، وهنا يلاحظ التقصير في الرؤية ، وربما كان ذلك من توابع استلاب الوعي في حملة الغزو الثقافي في حقل السياسة، والتأثر بالفكر النفعي البراغماتي المعاصر في الفلسفة الامريكية التي ترى أن الحق ـ ومنها الحقوق الاجتماعية ـ هو ما تحقق فعلا، وليس الحق، والحقوق قائمين على الوعي بالحقوق، والعدل في استنزاعها طوعا، او كرها من المغتصب،،
ومن اجل احقاق حقوق المواطنين ـ على سبيل المثال ـ فأحرى بنا الاجماع على برنامج لتطوير النظام الذي يضمن للفرد العيش، والكرامة له، وللمجتمع تحديث نظامه في شتى المجالات الاجتماعية، والتربوية، والاقتصادية، والثقافية، وسيمهد ذلك لتغييرفي الميول النفسية، والاتجاهات، وتعديل النظم الاجتماعية عامة عموديا، وافقيا بطريقة سلسة تتماشى مع قيم مجتمعنا المسالم، وسيحظى التغير التطويري بالاجماع الوطني، وبالتالي ستتفاعل معه الانظمة بما فيها نظام الاسرة، والتجمعات الحضرية القائمة على أسس التشظي القبلي، وتهميش الفئات، الأمر الذي كان ـ ولازال ـ يحول دون تذويب الفوارق الاجتماعية، بل استزرع أخيرا الكراهية، كمقدمة أولية للعنف، والحروب الأهلية،،حفظ الله موريتانيا من كل مكروه.
والسؤال المطلوب الاجابة عليه هو: ماهي السياسة، اذا لم تكن فن الممكن؟
ويجيب على هذا السؤال الباحثون فيما توصلوا اليه من نتائج للبحوث الميدانية في علم النفس الاجتماعي الذي حدد السياسة في:
1ـ الميول النفسية لدي المواطنين.
2 ـ الاتجاهات الفكرية، والآراء السياسية العامة في وسائل الاعلام بمختلف اذرعها،،
3ـ المواقف العملية في السلوك لدى القيادة، ونشطاء الحراك الاجتماعي السياسي من احزاب، وقادة الرأي في الفئات الاجتماعية الأخرى مجتمعة.
4 ـ دور المجتمع، ورصيده الحضاري في الفكر السياسي، والثقافي في تفعيل المشاريع السياسية التي تستجيب للمطالب العامة، ومنها قدرة المجتمع على فرز قيادته من نخبه المتعلمة، ومن المثقفين الطلائعيين الأقدرعلى الاستجابة لمواجهة التحديات الظرفية الآنية،،وكذلك طويلة المدى.
فهل المجتمع الموريتاني على هذا المستوى من الوعي السياسي في المستويات المذكورة اعلاه؟
واذا كان كذلك، فاين هي الحملة التوعوية في الاعلام واذرعه الرسمية وغير الرسمية؟
واذا كان كذلك، فإن هذا الحوار حري بأن يعقد عليه الأمل الكبير، لأنه سيمهد لإقامة الجمهورية الثانية حسب الاتباعيين، المقلدين للنموذج الفرنسي في تسمية كل نظام حكم باسم جمهورية جديدة اذا احدث قطيعة مع الارث السياسي السابق له في فرنسا الامبريالية،،
والأمور سيكون احسن من ذلك بالنسبة للنظام السياسي في بلادنا، حين يوضع برنامج تطويري على اساس مخرجات هذا الحوار الذي يمكن تعريفه، كالتالي: الحوار الذي سيطور البرنامج السياسي للنظام السياسي في بلادنا،،وهو الحوار الذي سيقود الى التغيير الايجابي في بنية النظام السياسي ،،وهو الحوار الذي سيعدل الأداء السياسي، كتغيير سلوك الفاعلين السياسيين، والتوجهات الفردية في المواقف والآراء،، وهو الحوار الذي سيعطي الاولوية للسياسة الداخلية، والخارجية،،وهو الحوار الذي سيعبر عن فلسفة الاستقلال السياسي، والسيادة الوطنية، والتحكم في مقدرات البلاد الغنية بمصادر الثروة التي حباها الله بها ،،وهو الحوار الذي سيمهد لكنس شجرة النظام السياسي الأولى بعد ان استنفدت عناصر مبرراتها ، وماتت عروقها، وفروعها، واغصانها معا خلال ستين سنة من عمرها المديد علما أن "المتوسط "العمري للفرد في بلادنا لم يتجاوز الأربعين.!
وهل يترائى للجميع موت شجرة الحكم السابق،،؟
واذا كان الجواب بالنفي، فلعل الذكرى تنفع الجميع، وعلينا ان نشرح لقراء "الموقع" اكثر حتى نقربهم منها بالمكبر" الميكروسكوب":
ففي الفترة الأولى لإقامة نظام سياسي في بلادنا بديلا عن نظام الامارة الاسمي، و"الاستدمار"الفعلي، كانت شجرة الحكم في طور التجذيع، واستنبات الفروع من النتوء، واطوارها في المراحل العسكرية الممتدة من 1978ـ 2020، وتعتبرالأخيرة مظاهر جانبية من الفترة الاولى من حيث: وحدة الصفات في الاشخاص، والمميزات في التوجهات السياسية، والأسس التركيبية" التلفيقية" غير قابلة للترميم.
وكانت تلك الفروع، والاغصان تتمدد حتى وصل عمر شجرة الحكم ستين ( 60) عاما، لذلك لامبالغة في تخشبها من عروقها الى فروعها، واغصانها القائمة بدور التجديد، لكنه تجديد بالمساحيق ليس الا.
ولم يكن هناك اختلافا لدى كل الرؤساء العشرة(10) بحيث يشكل عائقا في تممد الفروع، وتفرع الاغصان منها، فكيف تم ذلك يا ترى؟
وعندما اشرنا الى تمدد الفروع، فكان القصد ان الاشخاص ما كان يغيبهم عن الاداء السياسي الا انتهاء اعمارهم، لكن تيار حركة التدوير للنفايات الحاصلة للقضاء عليها في المجتمعات المعاصرة،، يقابله تدوير للوظائف من اجل البقاء على الاشخاص، والاستنساخ البيولوجي عن طريق النسل للطاقم الوزاري من ابنائهم الذين يحملون ذات " الجينات" من جهة الميول السياسية، والمواقف الفكرية، والأداء في التبادل الوظيفي الذي حصل تاليا للترقية في الموظيفة للوزراء الذين لاغنى عنهم ـ رغم تقاعد خرجي الجامعات دون ان يحصلوا على حقوقهم في الالتحاق بالوظيفة العمومية ـ في فلسفة الحكم في بلادنا،،ولذلك كان الموظف حين يعفى من عمله في حكم أحد الرؤساء، فهو مطمئن نفسيا انه سيعود بأحسن وظيفة مما كان في الحكم، لذلك يحسب نفسه في عطلة مفتوحة، تمكنه من الاستملاك في مجال التنمية الرعوية للسائمة من إبل، وابقار، واغنام، ومؤخرا صار الاستثمار في العقارات، والتجارة، والصيد البحري،،ولكن لدى ارجاعه الى العمل في فترة حكم الرئيس التالي بعد تغيب الاول عن المسرح السياسي، فيرقى الموظف، ويستبدل في التعيينات الوزارية ، واذا كان في الفترة الاولى حاكما لإحدى المقاطعات، فيتم تعيينه في الفترة الثانية واليا، او مديرا لشركة، او وزيرا، او كاتبا عاما، أما اذا كان الموظف الذي أقيل في الفترة الاولى واليا، فيكون في الفترة الثانية وزيرا، واذا كان في الفترة الاولى سفيرا، فيكون في الفترة الثانية وزيرا للخارجية،، واذا كان في الفترة الاولى كاتبا عاما للوزاء، فيكون في الفترة الثانية وزيرا، او رئيسا للحكومة، واذا كان في الفترة الاولى رئيسا لمركز صحي في احدى المقاطعات، فيكون في الفترة الثانية رئيسا لمستشفى، اوكاتبا لوزارة الصحة، او وزيرا، وليس هناك قاعدة لمراعاة التخصص، أو الكفاءة في حركة التدوير الوظيفي،،
اما كيف ازهرت شجرة الحكم، تلك الاغصان الوزارية من الفروع، ولم تظهر من جذع الشجرة الا في الحالات الاستثنائية؟
فالأمر واضح للعيان، ولا يحتاج الى مكبر للصورة، فالنظام القبلي ، والجهوي هما التربة المجدبة لاستنبات الفروع الأولى من شجرة الحكم،، وكذلك الاغصان من الفروع ، وذلك حين عين جيل من الوزراء من ابناء الوزراء السابقين، وبناتهم، واخوانهم، وتكوينهم لأحزاب قبلية، وجهوية كقوة اسناد، وهذا يعبر فيما يعبرعن حق الملكية للوظيفة الحكومية بالوراثة،،كملكية ابن المتوفي لوظيفة والده في النظام العقاري في مصر، فإذا مات حارس عمارة، فابنه اولى بوظيفة والده من شخص آخر، علما ان هناك بعدا أمنيا تارة، واخلاقيا في الاغلب،، بينما في نظام حكمنا السياسي، فالابعاد سياسية، وقبيلية، من جهة تأسيسها على نفوذ "صوري" لشيوخ القبائل رحمهم الله تعالى، ودورهم الوظيفي لإسناد الادارة الفرنسية في جمع " العشر" وحل التزاعات القبلية، وتقسيم الاراضي تجذيرا للأنقسام القبلي،، ثم جاء دور التأثيرالثقافي الاستلابي، والمناخي الذي تمثله الجهوية، والمحسوبية ، وكلها متكآت مطمئنة على " وظيفية" المستوزر، فضلا عن تفاعل "الوكلاء" هؤلاء مع نظام الحماية الفرنسي الذي قبله القادة المؤسسون على مضض، ورغم انف بعضهم الآخر ، وذلك لانتزاع الاستقلال، غير أن فرنسا طالبتنا بدفع فاتورتي ذخائر السلاح، والوقود للطيران العسكري في حرب الصحراء، وقد تبرعت المملكة العربية السعودية بدفعهما مشكورة لاسناد قانون الحماية الفرنسية لنظام الحكم في بلادنا،،
وقد تطبع، تواضع، تكيف الطاقم الحكومي مع هذا المعطى، لتعيين ابناء، وبنات الوزراء، كوكلاء مؤتمنين، ومنهم، اوعلى صلة قربى منهم الستثمرون الجدد، والشركاء للمستثمرين الاجانب،،وهذه العناصر أدت ادوارا وظيفية أخرى، لكونها تمثل الشرايين الحية في جسم المجتمع القبلي المهترئ، وواجهة للنخبة ذات المصالح المشتركة مع ما يسمى ب"الاستدمار" الجديد في طور العولمة المتوحشة..
اخيرا:
أما في العهد الجديد، فظهرت مؤشرات يجب التأكيد على قيمتها، ودلالتها كمؤشرات جديدة مثل تعيين رئيس الحكومة من خارج أطر القاعدة المتداولة منذ حكم المختار ولد داداه رحمه الله تعالى، رغم تشبث أخيه بعدم المشاركة في الحكومات السابقة على اساس تعصبه لقناعته بأن نظام الحكم في بلادنا، وهو نظام جمهوري ـ ومع ذلك في تقديره الخاطئ ـ لكنه قابل للوراثة وملكية الاسرة على الرغم من أن ابناء الرؤساء السابقين قبلوا بالتمدد الغصني في شجرة الحكم.
إننا نجزم بأن نظام الحكم في بلادنا إن أسس على مخرجات الحوار الفكري البناء، فسيمهد لمأسسة الجمهورية الثانية التي تشكل قطيعة مع نظام الحكم السابق ذي الوجوه العديدة، والارواح التي لاتموت، الكارهة أن تلتقي بربها، رغم تحلل اجسامها في اعراضها الخارجية،،
و هناك مجال للتفاؤل، وللتمكين من اقتلاع شجرة الحكم الميتة،،فهل نقدر على ذلك بالوعي السياسي البناء في الحوار المطلوب؟