تستدعي الظروف المعيشية الصعبة للقاعدة العريضة من أبناء الشعب الموريتاني ضرورة مراجعة السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية المتعبة في مجال مكافحة الفقر و البطالة و تدنى مستوى المعيشة و تآكل الروابط الاجتماعية بين مكونات الشعب الموريتاني. و رغم الجهود المتواصلة لمختلف الحكومات المتعاقبة للتخفيف من ثقل هذه الوضعية على كاهل المواطن إلا أن آثارها السلبية في تفاقم مستمر نظرا للتحديات العالمية الخارجة عن سيطرة أصحاب القرار أو التحديات الداخلية الناتجة عن التغيرات المناخية المتتالية و التزايد الديمغرافي للسكان و التأثير السلبي لليد العاملة الوافدة. و لا شك أن تدنى مستوى الإنتاج الوطني من المحاصيل الزراعية يعود أساسا إلى غياب خطة متكاملة تستمد فاعليتها من رؤية شاملة للأمن الغذائي و تأخذ بعين الاعتبار الظروف المادية للمزارعين و وسائل الإنتاج و الصيانة و طرق التوزيع و التسويق و التصنيع الغذائي. إننا في حاجة إلى مقاربة جديدة تضمن، من ناحية، المشاركة الفعلية للمزارعين الصغار أو الأسر المزارعة خاصة في الأماكن الأكثر فقرا على عموم التراب الوطني و توفر، من ناحية أخري، الدعم و التأطير و المتابعة لهؤلاء حتى يكونوا الدعامة الحقيقية لنهضة زراعية شاملة قادرة على خلق آلاف فرص العمل في مجال الزراعة و الأنشطة الاقتصادية المرافقة. و لن يتحقق هذا الهدف ما لم نتغلب على بعض الصعاب التى ما تزال تعيق تطور هذا القطاع. فيجب أن يكون شعارنا فى هذه المرحلة "حيثما توجد مساحة صالحة للزراعة يوجد مواطن موريتاني مستعد لاستغلالها".
تعتبر الزراعة من أنجع الطريق لمحاربة البطالة و خلق نهضة اقتصادية مستديمة تحقق الاستقرار و الرفاهية. و تبين التجربة الزراعية لبلادنا خلال العقود الماضية أهمية التركيز على التنوع الزراعي لتلبية حاجة السوق الوطنية من خضروات و حبوب و فواكه. و يعتبر التقصير في دعم المحاصيل التقليدية أحد مكامن الفشل في تأمين اكتفائنا الذاتي في المجال الغذائي. فهذه المحاصيل بأسمائها المحلية "الشعير ، الكمح ، تغليت ، بشن ، مكه ، متر ، أرحي ، آز ، التمر ، آدلكان ، شركاش" تتميز بتأقلمها الطبيعي مع ظروفنا المناخية و بما توفره من قيمة غذائية رفيعة تلبي الصحة البدنية لساكنة هذه الأرض. إن دعم الزراعة التقليدية يؤسس لسياسة التحرر من التبعية في مجال الأمن الغذائي و يعطينا المزيد من الاستقلالية و التحكم في أسعار المواد الغذائية الأولية و مشتقاتها. فبلادنا تمتلك الموارد الضرورية لتحقيق نهضة فى مجال الزراعة إذا ما توفرت خطة اقتصادية متكاملة تضمن مساهمة معتبرة للمواطنين كل حسب الظروف المحيطة به. و لإرساء أسس هذه النهضة الزراعية يتعين في نظري العمل وفق المحاور الآتية:
الاستثمار في المزارع الموريتاني و تشجيعه بالوسائل المادية و المعنوية الضرورية لممارسة مهنتة بكل حرفية و مسؤولية. و لهذا الغرض يتعين إنشاء مؤسسة وطنية لدعم و تسويق المنتجات الزراعية تتكفل من ناحية بالتنفيذ المباشر لسياسة الحكومة في هذا القطاع و من ناحية أخري المساهمة في المجهود الوطني الهادف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجال الغذائي. و في هذا الإطار توقع هذه المؤسسة سنويا آلاف عقود الشراكة مع المزارعين الصغار أو الأسر المزارعة تحصل بموجبها هذه الأخيرة على الدعم المالي الشهري و التأطير الفني مقابل تفرغها لمهنة الزراعة و بيع محاصيلها بأسعار محددة بالتوافق مع المؤسسة. و ستساهم هذه العقود في تحقيق عدة أهداف من أهمها : تثبيت المزارعين في أماكنهم الأصلية و خلق نشاط اقتصادي في الأماكن الأكثر فقرا، المحافظة على البيئة و المنتجات التقليدية، التعاقد مع عشرات المهندسين و المرشدين الزراعين قصد تأطير المزارعين على عموم التراب الوطني، الحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية و توفير المواد الأولية لصناعات غذائية تلبي حاجة السوق من دقيق و مشروبات و أطعمة معلبة و عجائن و سكر و أعلاف و غير ها من المواد الضرورية في حياتنا اليومية.
توفير الظروف المادية و الوجستيكية الملائمة لإحداث ثورة زراعية حقيقية. و ذلك بتوفير المصادر المائية المستديمة من آبار و سدود و أحواض مائية و فك العزلة عن مناطق الإنتاج الزراعي و اقتناء أجهزة التصبير و الحفظ تهيئة للتسويق داخليا و خارجيا. هذا بالإضافة إلى تعزيز الصناعات التحويلية الهادفة إلى ترقية المنتجات الوطنية و خلق تنوع غذائي و قيمة مضافة لمنتجاتنا الوطنية. و لهذا الغرض يتعين تشجيع القطاع الخاص على القيام بهذه المهمة أو تحمل الدولة لمسؤولياتها بتشغيل عشرات المهندسين و الفنيين القادرين على أحداث نقلة نوعية في مجال التصنيع الغذائي إذا ما توفرت لهم الظروف المطلوبة.
تشجيع المواطنين و حثهم على ممارسة الزراعة المنزلية و تفضيل النباتات المثمرة على غيرها من نباتات الزينة المستخدمة حاليا. هذا بالإضافة إلى تخصيص جزء من مساحات المدارس و المرافق العمومية لإنشاء مزارع نموذجية لتثقيف التلاميذ و تكوينهم على مهنة الزراعة أو لتمكين عمال هذه المرافق بدءا بالقصر الرئاسي من استغلال هذه الحدائق لغرس نباتات مثمرة تعود عليهم بالنفع المادي. فليس من المنطق أن نستمر في هدر المياه الصالحة للشرب و نحن في عجز غذائي.
إدراج مهنة الزراعة في مسطرة تكوين القوات المسلحة و العمل تدريجيا على تخصيص حوالي 10 % من أفرادها للمزاولة الزراعة على عموم التراب الوطني مع ضرورة الاستفادة من تجارب بعض الدول التي حققت نتائج معتبرة في هذا الميدان. و ستساهم هذه المبادرة في التحسين من الظروف المعيشة لأفراد هذه القوات و لذويهم. كما أنها ستمكنهم من إتقان مهنة تساعدهم بعد التقاعد.
5. تنظيم حملات في الإعلام الوطني لتثقيف المواطنين الموريتانيين على الطرق الحديثة للزراعة و تفضيل استهلاك المحاصيل الوطنية و تشجيع المستثمرين المحليين و توفير الضمانات الضرورية لمساهمتهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي ثم التصدير للخارج. هذا بالإضافة إلى التكوين المستمر للمزارعين و التحسين من خبرة المرشدين و المهندسين الزراعيين على عموم التراب الوطني.
إن العمل على تكوين طبقة واسعة من المزارعين على عموم التراب الوطني لا يقل عدد أفرادها عن 10% من تعداد السكان أصبح ضرورة قصوى للتحسين من الظروف المعيشة و الحد من الفقر و البطالة و تحقيق استقلال في المجال الأمن الغذائي. كانت بلادنا قبل سنوات الجفاف مستقلة غذائيا عن الخارج بفضل سواعد مزارعيها و التنوع الغذائي لمحاصيلها التقليدية. و مازالت بمقدورها استعادة هذه الميزة بتطبيق مقاربة اقتصادية شاملة و متكاملة للنهوض بقطاع الزراعة و التنمية الحيوانية. فبتكاتف جهود الجميع نحقق وفرة في المواد الغذائية، نرفع من قيمة الأجور، نتحرر من الهيمنة و التبعية الاقتصادية للخارج، نعزز الاستقرار و رفاهية المجتمع بتشغيل آلاف المواطنين على عموم التراب الوطني. و قد لا تتجاوز تكلفة هذه الخطة 20 مليار أوقية سنويا و لا تحتاج لأكثر من خمس سنوات من المتابعة و التسيير الدقيق من طرف كفاءات وطنية معروفة بتجربتها في الميدان و باستقامتها الأخلاقية حتى نؤسس لانطلاق نهضة زراعية مستديمة على أرض الوطن. و يتعين استخدام هذه الموارد المالية عبر المؤسسة الوطنية لدعم و تسويق المنتجات الزراعية لمساعدة كل سنة أكثر من 100 ألف أسرة مزارعة فى مختلف مناطق الإنتاج، التعاقد مع أكثر من 300 مرشد و مهندس زراعي، اقتناء أسطول من الشاحنات المجهزة لنقل المواد الغذائية و تشييد عشرات مراكز تجميع و صيانة المواد الغذائية في مختلف مناطق الإنتاج و التسويق.