لدراسة مصادر الحج في بلاد شنقيط، أهمية بالغة حيث أن الباحث يحرث مكتبات المخطوطات جيئة وذهابا دونما ظفر بمبتغاه، ومن هنا فإن إظهار تلك المصادر، وأماكن وجودها من أوكد ما يدونه الباحث المتخصص في جمع المصادر.
لقد طالعت منذ فترة، _ حينما ساعدني أحد زملائي الخيرين النابهين في مطالعة مخطوطات مكتبات تيشيت المصورة من طرف مركز جمعة الماجد_، أرجوزة للعالم التيشيتي الشيخ سيدي محمد بن أحمد بن سيدي أحمد البلاوي التيشيتي المتوفى سنة 1283ه، وهي في أحوال طرق الحج والمصاعب التي يتلقاها الحاج وهو في طريقه إلى البلاد المقدسة. وقد نظرت فيها ونسختها ضمن ما أنسخه من النصوص المخطوطة قصد استثمارها وتقديمها إلى القارئ في الوقت المناسب، وقد شغلتني عنها أعمال علمية نشرتها في مجلات عدة. وأثناء عملي رأيت بأن بعض الباحثين قد استثمرها من أمثال زميلنا الدكتور سيدأحمد بن أحمد سالم في مقال نشره في موقع سدنة الحرف، معلقا وناشرا للنص، وهو عنده ستة وخمسون بيتا، أما النسخة التي أمتلكها وهي تقبع في مكتبة الفاضليين في مدينة تيشيت، فتزيد بيتا واحدا على ما ذكر أعلاه.
وممن استثمرها كذلك الدكتور حماه الله بن مايابى، ذكرها أولا في بحث مقدم لمئوية محمد يحيى الولاتي تحت عنوان: محمد يحيى الولاتي في مدينة تيشيت: حضوره وتراثه. وقد ذكر المنظومة مستشهدا بها على وجود طرق حج تبدأ من تيشيت وتمر ببلاد السودان، وأثبت منها سبعة أبيات. وقد عاد إليها الباحث بتفصيل أطول وتحليل أشمل في دراسة نشرها في مجلة الدراسات التاريخية، تحت عنوان: أرجوزة سيدي محمد بن أحمد بن سيدي أحمد البلاوي، في أحوال الطرق إلى الحج.
غير أن هذين الباحثين لم يشيرا إلى أن هذا النص قد وظفه أحد الرحالة المشهورين، وهو محمدي بن سيدي عثمان، أحد علماء ولاتة، فقد مر في رحلته الحجازية من مدينة شنقيط العامرة سنة 1308ه، وحينما دون رحلته ذكر رحلة البلاوي في موضوع عدم جواز ركوب البحر فقال:" فالحق قولُ سيدي محمد التيشيتي البلاوي في قصيدة له ذكر فيها عدم جواز ركوب البحر إلى أن قال فيها:
وَاسْتَثْنِ مِنْ ذَا سُفُنَ الــــــــــدُّخَانِ فَإِنَّهَا فِي البَحْرِ كَالبُنْيَـانِ
وهذه الأرجوزة كانت مجهولة إلى حد قريب، ويبدو أنها لم تظفر بما تستحقه من الدرس عند علماء تيشيت، وصاحبها لا يعرف عنه كبير شيء، إلا تلك الإشارة اليتيمة التي خصه بها محمدي بن سيدي عثمان، ومع ذلك فهو ينتمي لسكان مدينة تيشيت وخاصة القبيلة التي انتمى إليها وهي أولاد بله.
وفي العصر الحديث لم يتعرف عليها من كتب في أدب الرحلة، مع أهميتها وطرافتها في موضوعها، وأسلوب كتابتها، ونصاعة ألفاظها، وواقعيتها، ودقة وصفها لمضامين الرحلة.
وقد لخص ذلك في بيتها الأخير حيث قال:
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لاَ تُبَـــــــــــــــــــــــالِي بِغَيرِهِ مِنْ خَبَرِ الجُهَّـــــــــــــــــــــــــــــــالِ
وهذا البيت يرد على مطلع الأرجوزة الذي قال فيه:
يَا طَالِبَ الحَجِّ مِنَ السـُّـــــــودَانِ لاَ تَغْتَرِرْ بِالزُّورِ وَالبُهْتَـــــــــــــــــانِ
إِذْ كُلُّ مَا تَسْمَعُ مِنْ مَدِيـــــــــــــــحِ طَرِيقُهُمْ لَيْسَ عَلَى الصَّحِيحِ
لِأَنَّهَا قَدْ زُخْرِفَتْ بِالكَــــــــــــــــــــــــذِبِ فَصُيِّرَتْ مِثَلَ نُضَارِ الذَّهَــــــــبِ
ومهما يكن من أمر فإنها تعد مصدرا بالغ الأهمية، ومشاركة بديعة من طرف عالم تيشيتي في إثراء أدب فن الرحلة في بلاد شنقيط، إذ أن أغلب الرحلات كانت مدونة بالكتابة النثرية، ولكل لون من هذه الألوان خصوصياته الإبداعية، وتشكلاته الفكرية، وصياغاته الأسلوبية.