قال الله تعالى:
﴿یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّ أَرۡضِی وَ ٰسِعَةࣱ فَإِیَّـٰیَ فَٱعۡبُدُونِ﴾.
[العنكبوت ٥٦].
﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾
“تحريض على الهجرة من مكة، إذ كان المؤمنون يلقون فيها أذى الكفار، وترغيباً في غيرها من أرض الله، فحينئذ هاجروا إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة”. تفسير ابن جزي — ابن جُزَيّ (٧٤١ هـ)).
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ)). صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة.
لما رأى أهل الشرك والصد عن سبيل الله ضعفهم عن مواجهة دعوة الحق بالحجج والبراهين تحولوا إلى منطق القوة والغلبة وانتهاج سياسة التنكيل بأهل الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك نصرة للباطل ومحاولة للقضاء على دعوة التوحيد في المهد..
وما علموا أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب تملك من شغاف القلب واستقر مقامه على سبيل نور اليقين..
فيصبح التنكيل وإلحاق الأذى متوجها إلى الأبدان دون الأفئدة المطمئنة بذكر الله تعالى..
لقد كانت الهجرة إلى الحبشة بمثابة التغيير واستحضار قيم حمل الرسالة إلى آفاق رحبة..
رحلة فتحت الآفاق للمستقبل أمام الدعوة الإسلامية، وخروجها عن الحيز الجغرافي لأرض بكة شرفها الله..
وانطلاق رسالة الإسلام نحو العالمية، واستحداث مستقر جديد لنشر دعوة نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام..
فدعوة الحق لا يحدّها زمان ولا مكان، وإن لم يستجب لها المَدعُوّون، فإنّها تبحث عن قلوب صالحة لاستقبالها واحتضانها، ولا تتوقّف عن السير في أرض الله الواسعة..
كما أن الهجرة إلى أرض الحبشة ساعدت المسلمين في الثبات على دينهم، ليس ذلك وحسب، بل ساعدتهم أيضاً على نشر الإسلام في مكان غير مكّة المُكرَّمة..
وكان بداية مباركة لوصول الإسلام إلى قارة إفريقيا الفتية التي تلقت رسالة السماء بالمحبة والقبول..
وهذا هو المقصد الأسمى لأهل الحق ألا وهو حماية الرسالة المحمدية الخالدة ونشرها والمحافظة عليها من غوائل الشرك والظلم والصد عن سبيل الله..
هنالك شعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعاظم خطر محاصرة دعوة الإسلام، وبدأ الأذى يشتد على كل مسلم رجاء الصد عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتركوا بابا إلا ولجوه صبرا واحتسابا وثباتا على الدين..
ولما رأى نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام ما يصيب أصحابه من البلاء، بعد أنْ اشتدّ أذى مشركي قريش على المسلمين في مكة أشار عليهم النبي -عليه السلام- بالهجرة فراراً بدين الله -تعالى- وحماية لأنفسهم من بطش المشركين..
واختار لهم أرض الحبشة، لأنّ فيها ملكاً عادلاً، لا يقبل الظلم على أحد، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما أشار عليهم بالهجرة للحبشة: ((إنَّ بأرضِ الحَبَشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عندَه؛ فالحَقوا ببِلادِه حتى يَجعَلَ اللهُ لكم فَرَجًا ومَخرجًا)). تخريج سير أعلام النبلاء (١/٢٠٨) • سنده صحيح.
فكان عدل ملك الحبشة باعثا على الخروج إليه رغم بعد الشقة وتحمل المشقة إظهارا لقيمة العدل حتى مع اختلاف الملة..
كما أنّ أهل الحبشة كانوا نصارى من أهل الكتاب، وهم أقرب مودّة للذين آمنوا، قال -تعالى-: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً
لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾. [المائدة].
وكانت هذه الهجرة أول هجرة من مكة، وكانت في شهر رجب في السنة الخامسة من البعثة، وبلغ عدد المهاجرين عشرة رجال وأربع نسوة، وكان منهم: عثمان بن عفان ومعه زوجه رقيّة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير، وسهل بن البيضاء والزبير بن العوام، وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وأخوه لأمه أبو سبرة بن أبي رهم وزوجه أم كلثوم، وعثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سهيل، -رضي الله عنهم-،
وغيرهم…السيرة النبوية لابن هشام، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
ويلاحظ الحضور الفاعل للمرأة المسلمة المهاجرة بدينها جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل في نصرة الحق والذب عنه.
ولم تقتصر الهجرة على المُستضعفين، والفقراء الذين كانوا في مكّة، بل كان أكثرهم ممّن لهم المال، والحماية، والقوة فيها؛ كعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، رضوان الله عليهم-، وهذا من أهمّ الأدلّة على أنّ السبب الرئيسيّ للهجرة هو حماية الدعوة إلى الله..
حيث خرجوا خفية حتى وصلوا البحر؛ فاستأجروا سفينة أوصلتهم باتجاه الحبشة..
وعندما علمت قريش بخبرهم تبعتهم، لكنهم كانوا قد ساروا برعاية الله، ووصلوا الحبشة وأقاموا فيها آمنين بقية رجب وشعبان ورمضان، وكانوا قد وصلتهم أخبار أنّ أهل مكة قد أعلنوا إسلامهم؛ فطفقوا عائدين، وعند مشارف مكة تبيّن لهم أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ أذى المشركين يزداد على الدعوة ومن آمن بها، فاختار بعضم الدخول إلى مكة تسلّلاً، ودخل بعضهم بجوار أحد، واختار بقيّتهم العودة إلى الحبشة..
ولمّا أحسّت قريش أنّ وضع المسلمين يصير إلى الطمأنينة والاستقرار في الحبشة، تشاوروا فيما بينهم، واتّفقوا على إرسال سفيرين منهم إلى النجاشيّ؛ كي يطردهم، ويعيدهم إلى مكّة، وجمعوا الكثير من الهدايا، وأرسلوها إليه مع عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، ولم تقتصر الهدايا عليه فقط، بل شَمِلت حاشيته أيضاً، فلم يبقَ أحد إلّا وأهدوه هدية، وحرّضوهم ضدّ من قَدِموا إليهم من مكّة، وأوصوهم بأن يُشيروا على ملكهم بتسليم أهل مكّة إليهم، فوافقوا على ذلك، ثمّ ذهبوا إلى النجاشيّ، وقدّموا له الهدايا الخاصّة به، وقالوا له: “إنّه قد لجأ إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردّهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه”. قصة الإسلام.
أيّد قوم النجاشيّ رسولَي قريش في كلامهما، فما كان من النجاشيّ إلّا أن رفض ما طلبوه، وأخبرهم أنّه لن يُسلمهم إليهم حتى يأتي بهم، ويسألهم عمّا قالاه فيهم، فإن قالوا إنّه صحيح سلّمهم إليهما، وإلّا فلا، فلمّا أحضرهم وسألهم، تكلّم منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أول سفير وداعية ينافح عن دين الإسلام ويبلغه بحكمة وموعظة حسنة..
في قوة الحق وفي ثبات المؤمن الصادق الواثق بموعود الله لعباده المؤمنين تقدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وألقى خطابًا مبينا مختصرا وحاملا لكل المعاني المطلوبة في مقام الدفاع والعرض والتبليغ..
في تسلسل بديع للعرض وبراعة استهلال عجيبة حيث بدأ يقبح صور الجاهلية:
“أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدَا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث،
فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك”. قصة الإسلام.
وهذا بيان للحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام، وتصوريها بصورة تأنف منها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، وتظهر المخالفة لكل الرسالات السماوية ولما عليه النجاشي وأساقفته من بقايا دين أهل الكتاب..
ثم شرع في ذكر شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وما فيه من الصفاة المصدقة برسالته ودعوته، وبيان مجمل لقواعد الإسلام، وتقديم حقيقة الرسالة المحمدية المتمثلة في التوحيد ومكارم الأخلاق..
ثم عرض مظلمة الأصحاب رضوان الله عليهم وتصوير ما تعرضوا له من صنوف الأذى، وهو تذكير بديع للنجاشي وأساقفته بالحواريين الذين عُذِّبوا من قبل، وبالذين كانوا يفتنونهم عن دينهم بأبشع الأساليب..
ثم ختم خطبته بذكر عدل النجاشي أصحمه وهو ما دعاهم إلى الخروج إليه؛ لأن عدله يحجزه عن ظلمهم أو تسليمهم لمن ظلمهم..
ولما تبين أن الحق ظاهر وأن الباطل كان زهوقا، حاول سفراء قريش التنقيص من شأن المرأة والاستهزاء بالدين الإسلامي الذي يعطي من لا تحمل الرمح ولا تقدر على الإتيان بالسلب الحق في المشاركة في بناء كيان الأمة والتعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
قال الله تعالى:
﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٧٢﴾ [التوبة].
فقال جعفر بن أبي طالب: “لهنّ ما لنا، وعليهن ما علينا”. فاستهزأ عمرو بن العاص (ولم يكن قد دخل الإسلام بعد) وقال: “ماذا لهنّ؟ ونحن نشتريهنّ، ونُطعمهنّ، ونكسوهنّ، ليخدمننا، أو نبيعهنّ إذا أبين الطاعةَ!”. فردّ جعفر فى غضب المؤمن وقوة صاحب الحق : “أتمتهنُ المرأةَ التى حملتك فى بطنها خَلقًا من بعد خَلْق، وأرضعتكَ طفلاً، وسهرتْ عليكَ حتى بلغتَ أشدَّكَ، يا عمرو؟”. قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وبعد استجابة النجاشي لكلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أحس سفراء قريش بقرب الهزيمة وانتهاء المهمة بالبوار والخسران، فسعوا إلى التحريش بين النجاشي وجعفر وإخوته رضوان الله عليهم، بمحاولة توجيه سهام الكذب والافتراء والتفريق بين رسل الله، فكان رد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه موفقا مسددا من قبل الله تعالى، وهداه الله إلى تلاوة فاتحة سورة مريم عليها السلام، واختار آيات بينات ذات وقع على القلوب قبل الأسماع، وذكر فيها الأنبياء عليهم السلام؛
قال الله تعالى:
سُورَةُ مَرۡيَمَ
بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
﴿كٓهيعٓصٓ ١ ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ ٢ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا ٣ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا ٤ وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا ٥ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا ٦ يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا ٧ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا ٨ قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـٔٗا ٩ قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا ١٠ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا ١١
يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا ١٢ وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا ١٣ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا ١٤ وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا ١٥ وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا ١٦ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا ١٧ قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا ١٨ قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا ١٩ قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا ٢٠ قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا ٢١ ۞﴾.(سورة مريم).
لم يتسنى للقساوسة مقاومة أثر كلام الله تعالى المعجز الذي وقع قويا على قلوبهم وبصائرهم، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي رضي الله عنه حتى ابتلت لحيته، وبكى الأساقفة، قال الله تعالى:﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ ٨٣وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٤ فَأَثَٰبَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٨٥﴾.(سورة المائدة).
ولم تقف هدايا قريش ولا سفراؤها ولا قوة علاقاتها التجارية حائلاً بين كلام الله وبين قلوب السامعين، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال:
“إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة”.
وهذه أيضا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وميثاق ودليل على صدق ما أخبر به من عدل النجاشي.
ثم التفت في عدل الحاكم وثبات المؤمن إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: “انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا”.
وبهذا تكون سفارة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ووفده قد أحرزت نجاحا كبيرا في مهمتها المحددة بحماية المهاجرين الأول، وحققت نجاحا آخر أكبر على طريق التبليغ والتمكين لدين الله في أرض الله..
ومنذ ذلك الحين بدأ التاريخ يسطر وقائع وصول دين الرحمة والسماحة والسلام إلى ربوع إفريقيا ومنها إلى العالم..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.