قررت ، مع صديق لي اليوم ، صلاة الجمعة في أقدم مسجد في العاصمة نواكشوط ، و هو مسجد الإمام بداه ولد البصيري في لكصر القديم، و قد كانت رحلة روحية مليئة بالصور ، و تاريخية مليئة بالأحداث ، و قراءة لطبقة اجتماعية عاصرت نشأة الدولة و وضعت اللبنات الأولى للحياة الحضرية للمدينة الناشئة ..
كانت الشوارع مكتظة بالسيارات الفارهة في اغلبها، و كانت الأوجه في أغلبها توحي بالرخاء و الميسرة، و كان جناح النساء مكتظا بهن، و لم نجد غير الطابق العلوي ..
تشعر و أنت تصعد السلم أنك في حضرة مهيبة، ففي هذا المكان كان أشهر و أصدق رجل عرفته الدولة الموريتانية منذ نشأتها ، العالم الجليل بداه ولد البصيري الذي عرف باستقامته و صدعه بالحق و عدم مداهنته للسلطان ، و بين جدران هذا المسجد توالت أجيال من طلبت العلم العباد و النساك..
قيل لي إن المسجد بناه المرحوم عبد الله ولد انويكظ، و أن طلابها و مدرسيه تلقوا الكثير من الإحسان من جواره من الأسر الآدرارية العريقة التي كونت الطبقة الأولى من رجال الأعمال الموريتانيين بالكد و المثابرة ، قبل طفرة الفساد التي أثرت بعض الناس على طريقة (الفانوس السحري )..
لعل سكان آدرار هم المجتمع الوحيد الذي يمتلك ناظما خلقيا موحدا، يتحلى به كل الأفراد و تحافظ عليه الأجيال ، و لديهم سجايا مشتركة على اختلاف انتماءاتهم القبلية ، هي: الكرم الطافح، و الأربحية غير المفتعلة ، و الخلق الرفيع في المعاملة، و البعد عن السوقية و الفساد و السرقة و فساد الأخلاق ، و عزة النفس ، و الصبر و الإتقان ، و الكل يعلم شهرة منتجات آدرار من دهن و تمر و خضروات و نعناع و حناء..
في لكصر القديم تكونت تلك الحضارة متعددة المعطيات من الطبقة الغنية حول مسجد بداه و مدرسته و طلابه، و كانت نموذجا للتحضر المستنير المحافظ على الثوابت رغم مستوى الرفاهية..
داخل المسجد تتنوع السحنات و تختلف الأجناس، لكن حركة الناس و نوعية الملبس و الهدوء و الانسيابية تلفت الانتباه.
كانت خطبة الإمام، و هو أحد تلاميذ بداه ، تعبر عن معلمه ، فقد كانت مختصرة عميقة بليغة دون عناء و لا تكلف، تشعر بوقع كلماتها، و تتغلغل تموجاتها في الأنفس .
و كانت القراءة خاشعة تتبع المعاني و ترصد الدلالات ، و قد أطال السجود و الركوع ، و لفت انتباهي عدم التسابق للخروج ، و تبادل التحية بين الناس مما يوحي بالجيرة و الألفة ..
رحم الله العالم الجليل بداه ولد البصيري ، فقد كان أداة لفرملة للكثير من المسخ الحضاري الذي كانت لتعانية العاصمة مع نشأتها لولا قوته في الحق و صدقه و صراحته ....