يشكل التعليم باتفاق الجميع دعامة أساسية للنهوض بالأمم في شتى المجالات..فمن يقرأ تاريخ اليابان بعد الحرب العالمية الثانية؛ ويتأمل واقع سنغافورة وتايلاند والبرازيل ودولا أوروبية يدرك دون عناء تلك النقلة النوعية التي أحدثها التعليم في هذه البلدان؛ التي كانت حتى عهد قريب تعيش تخلفا على جميع الأصعدة.
وفي إفريقيا استطاع التعليم النوعي أن ينتشل روندا من براثين الحروب الأثنية؛ التي تركت جرحا نازفا في الذاكرة الجمعية الروندية؛ كان بإمكانه أن يعيد إنتاج حروب أهلية أخرى؛ لولا الإرادة الصلبة (لبول كيغامي) وفريقه؛ التي اعتمدت على التعليم لتجاوز كل مخلفات ذلك الإرث الثقيل.
لقد أدى التهاون بالتعليم في موريتانيا إلى خلق عناصر للتوتر كانت ومازالت تنخر كل مقومات الدولة الموريتانية؛ وتعمل في الآن ذاته على نشر فسيفساء من الإيديولوجيات الهدامة؛ بحكم افتقارها لرؤية واضحة لبناء مجتمع تدفع به نظمه التربوية إلى الانهيار.
اليوم وبعد أن أدركت الدولة الموريتانية طبيعة العلاقة العضوية بين انهيار التعليم وتفكيك المجتمع؛ سعت جاهدة لوضع حد لنزيف عمره أكثر من خمسة عقود.
صحيح أن ثمة محاولات عديدة في هذا المجال؛ كان آخرها إصلاح 1999 ؛ لكنها ظلت دون المستوى المطلوب؛ الأمر الذي جعل المشرفين على التعليم يعتمدون مقاربات معينة..تمثلت في زيادة فترة التكوين في مدارس المعلمين والمدرسة العليا للأساتذة .
كانت نتيجة جميع هذه المخرجات غير مرضية في أغلبها؛ فقد ساهم تدني المستويات بصورة مباشرة في إذكاء النعرات الشرائحية؛ الأمر الذي جعل من غالبية مخرجات التعليم مجرد وسيلة لزرع الألغام على خريطة المجتمع؛ وانهاك كل قواه الحية من خلال ظاهرة العنف المسيس؛ التي تعد التصور الأمثل لدى الكثيرين سبيلا لملء فراغ من نوع ما؛ يعتمد أصحابه المنهج التبريري الذي يعكس بحسب علماء النفس خللا داخليا مبنيا على تراكمات من الشعور بالنقص الحاد.
إن تعهدات فخامة رئيس الجمهورية ببناء تعليم جمهوري تتطلب بالضرورة استيعاب الأخطار الحقيقية التي تشكلها منظمومتنا التعليمية في شكلها الحالي على أمننا القومي؛ يتضح ذلك من خلال جملة من الأمور منها: ترسيخها للهوة الثقافية بين مكونات الشعب الواحد ؛ ناهيك عن دورها في تكريس الفوارق الطبقية؛ وهذا بطبيعة الحال أثر على نظرة الفرد لمفهوم الوطنية الأمر الذي انعكس سلبا على تصوره لإمكانية التعايش السلمي.ما يعني أننا نتبع نهجا شجع المواطن على تجاوز مفهوم الدولة بحثا عن شريحة أوجهة أوقبيلة؛ عله يجد عقدا اجتماعيا يشعره بنوع من الأمان.
في ظل وضع هكذا لم يعد إصلاح التعليم خيارا ؛ بل أصبح ضرورة ؛ ولا أعتقد أن المدرسين سيشكلون عائقا أمام صناعة وطن بأساليب متحضرة؛ فالتفكير السليم يبدأ بمراجعة الذات؛ حتى وإن تطلب ذلك إعادة ترتيب الأولويات بشكل مغاير تماما لما كانت عليه في السابق؛ فالمعلم الذي يعتبر نفسه ركيزة مهمة في تغيير مجتمعه نحو الأفضل ؛ لا يمكنه تحت أي ظرف أن يشكل عائقا أمام السعي الجاد لإنقاذه من الانهيار في صمت؛ مهما كانت قوة الروابط التي تجمعه بنقابات؛ علمنا التاريخ أن أولوياتها غالبا ما تتعارض مع المصالح العليا لوطن أزعجته الاحتجاجات التي تغرد خارج مصالحه الحيوية .
لست ضد العمل النقابي بأساليبه التي تخدم الفرد والمجتمع؛ لأنها في النهاية تتقاطع مع الأهداف الإستراتيجية ذاتها التي تصب في مصلحة موريتانيا؛ لكن تسيبس العمل النقابي يعد أحد الظواهر غير الصحية والتي هي جزء من المشكلة؛ خصوصا بعد سعيه الدؤوب لزرع مواطن للخل بين الوزير وطواقمه التروبوية.
والحق أن التقويم الذي دعا إليه معالى الوزير لايهدف إلى المساس بمكانة المعلم ولا إلى التنقيص من شأنه؛ إنه مجرد دعوة لوضع الأمور في نطاقها الصحيح؛ لأن التسلسل المنطقي لعملية مركبة لصناعة الآجيال يتطلب تشخيصا ثم تشجيعا للفاعلين الحيويين في إنجاز من هذا القبيل؛ فنحن أمام منعرج تاريخي يشكل فرصة لكل المعلمين الواثقين بأنفسهم ليضعوا لمسات خالدة في بناء موريتانيا الحديثة أسوة بزملائهم في دول أخرى قفز بها معلموها من مستنقعات التخلف إلى مصاف الأمم المتطورة.
يبقى استقرار بلد مثل موريتانيا مربوط بتغيير العلقليات من خلال تعليم نوعي يساهم فيه الجميع كل حسب موقعه؛ وهو أمر لن يتأتى مالم يعي جنود الجبهات الأمامية في المعركة ضد التخلف والجهل أن الانحناء لكرامة أمة لا يمكن أن يكون إهانة؛ وأن تأجيل الحسابات ضيقة أصبح ضرورة كي نتمكن من وضع أسس لبناء وطن نفاخر به في المحافل الدولية.
فالمسألة إذن أكبر من أن تختزل في سجال نقابي أوفي هتافات بتاء التأنيث في الساحات العمومية التي لا تكرس سوى التخندق في خانة من يحاول أن يقنعك بأن سلاح المشاغبين هو الأفضل لخوض المعارك المصيرية للأمم..